الحلقة 591: شجر لبنان الأخضر فحم الأراكيل
(الأحد 15 نيسان 2007)
بقينا نتغنّى بلبنان الأخضر، وننظر بشفقة إلى دولٍ حولنا صحراوية المشهد، حتى تصحَّر لبنان من أخضره الجميل واخضرّت تلك الدول حولنا: من تَصَحُّرِها إلى زرعٍ أخضرَ بات وارفاً حتى تمتدَّ ظلاله إلى لبنان المتصحِّر.
وبقينا نتشدّق في أغانينا بِمقولة “تَحت السما ما فيه متل لبنان” متغنّين بجمال طبيعتنا وخضرة جبالنا وعراقة أشجار الأرز والحور والسنديان، حتى انكشف لنا أننا لم نُحسن الحفاظ بيئياً على جمال الطبيعة، ولم نكتف باغتيال الأخضر في جبالنا فاغتلناها ثانية بالكسارات وفوضى البناء غير الخاضع لتخطيط مُدُني صارم، ولم نحفظ أشجار الأرز والحور والسنديان بل قطعناها من جذوعها ومن جذورها وحوّلناها حطباً للمشاحر.
وإذا من مهمة المشاحر أن تعطينا الفحم، فمن مهمة الفحم أن يذهب إلى المواقد للتدفئة في الشتاء، وللأراكيل الشوساء التي أصبحت عندنا ظاهرةً تشاوُفيةً في الشتاء وفي جميع الفصول، يمارسُها كبار اعتادوها ترفاً نيكوتينياً منذ سنوات، ثم انتقلت من الترف إلى خرعة الموضة البشعة المؤذية المضرّة المسمِّمة حين أصبح نربيش الأركيلة في أفواه صبياننا وصبايانا مَن في أعمار يبلغ حدُّها الأدنى الأربعَ عشرة سنة إن لم تكن أحياناً دونها قليلاً.
جاء وقتٌ، كان حتى شجر الميلاد يتطلّب إذناً من وزارة الزراعة كي يتمَّ قطعه، وفي مناطق مُحدَّدة وفي طرائقِ قطعٍ مُعيَّنةٍ خاضعةٍ للرقابة الشديدة تحت طائلة الجزاء، أيام كان عندنا موظف اسمه “مأمور الأحراج”.
اليوم، وزارة الزراعة غائبة، لا لأن وزيرها غائب، معتكف أو مستقيل، بل لأنها هي نفسَها مستقيلةٌ من دورها ووظيفتِها مع أن موظّفيها غيرُ مستقيلين ولا يزالون يتقاضون من مال الشعب معاشاتهم ورواتبهم وساعاتهم الإضافية.
وإلاّ كيف نفسّر مثلاً أن يتقدّم مشروع يتيح استيراد الصنوبر وبيعه في لبنان، وفي لبنان أشجار صنوبر هي المورد الوحيد لطبقة عريضة من الفلاحين والمزارعين والمواطنين؟
وكيف نفسّر أن يتواصل قطعُ الأشجار بدون رقابة حتى بتنا نشهد وطننا يتصحّر يوماً بعد يوم، بجريمة مَن يقطع في ثلاثين دقيقةً شجرةً عمرها ثلاثون سنة، ليبيعها في سوق الحطب فيشتريها ذوو المشاحر ثم يبيعونها فحماً إلى من يصنّعونه ليجعلوه فحماً للأراكيل يدخِّنها أولادنا ولا يدرون أن لهاثهم المتصاعد من أفواههم وأنوفهم هو لهاث شجرة خضراء من لبنان.
“حليانه الدنيه حليانه بلبنان الأخضر”؟ رزق الله على هاتيك الحقبة، أيام كان عندنا شجر أخضر نتفيَّأُ ظلاله المباركة، وكان آباؤنا يعتنون بأشجارهم كما بأولادهم! أما اليوم فأصبح الأولاد يتفيَّأُون ظلال شمسيات النايلون والقماش، ويدخّنون الأراكيل وهم لا يشعرون أنّ تنبكها المعسّل يُشعله فحم أسود من شجر لبنان الذي كان أخضر.