الحلقة 587: العقل الخلاق والدولة المتخلفة
(الأحد أول نيسان 2007)
قالت بنبرة عصبية: “يغادر ابني غداً، وقد لا يعود. ولستُ آسفةً أن يعيش ويعمل بعيداً عن هذا الوطن المتخلف”.
لا يا سيدتي. أخطأتِ في التفكير والتعبير. نحن لسنا في وطن متخلف. لا تَخلُطي بين الوطن والدولة. نحن في دولة متخلفة عن العصر؟ صحيح إلى حدِّ كبير. لكننا لسنا في وطن متخلّف. لبنان الوطن هو لبنان أبنائه. لبنان الدولة هو لبنان حكامه منذ ما قبل الاستقلال حتى اليوم.
لبنان الوطن هو عقل أبنائه المُجَلّين فيه جزئياً (بسبب ضيق آفاق تَجلّيهم) والمُجَلّين خارجه في إشراق وإشعاع وإبداع، حتى تكادَ لا تخلو دولة في العالم من لبنانيين خلاّقين مبدعين في كل حقل وجَـوٍّ وميدان.
لبنان الوطن هو لبنان المنتشر في جميع أصقاع الدنيا لبنانيين مسؤولين ومدراء ورؤساء شركات ومؤسسات وموظفين كباراً ولامعين في حقول الفكر والثقافة والفنون، ولا نَجدُ، عزاءً لنا، إلاّ أن نتشدّق صارخين بأنهم لبنانيون أو من أصل لبناني، وحين كانوا هنا لم يشعر بهم أحد أو أهملهم المعنيون. وآخر مثالٍ على ذلك الشاب العبقري ميشال عبيد، ابن عكار الذي رفضه المعنيون في الجامعة هنا فغادر إلى فرنسا وهناك انفتحت له آفاق العلم والاختبار فطلع على العالم بعلاج قد يكون مدخلاً إلى مداواة السرطان. وحين جاء قبل أيام إلى بيروت هرعت إليه مؤسسات الصحافة والإعلام تُبرزُه لبنانياً متفوقاً نباهي به بعدما كان خرج من لبنان قرفاً من إهماله وعدم الانتباه إلى موهبته.
هذا هو لبنان الوطن، يا سيدتي، لبنان العقل الخلاّق. والتخلّف ليس في لبنان الوطن بل في لبنان الدولة، الدولة التي لا تزال قاصرةً جداً عن مواكبة العصر في قطاعات منها عديدة، لأن تركيبتَها، هذه الدولة، لا تراعي وضع الشخص المناسب في المكان المناسب للأداء المناسب، بل معظم طاقمها، منذ سنوات سحيقة، مُشَكَّلٌ من أزلامٍ ومَحاسيبَ وأنصار سياسيين، وجماعات كوتا دينية ومذهبية وطائفية ومناطقية، كلُّ موهبتِهم استزلامُهم لأسيادهم من “بيت بو سياسة” حتى جاء وقتٌ باتوا يشكلون فائضاً مرهقاً على خزينة الدولة من دون أية إنتاجية فاعلة للوطن.
التخلّف في الدولة، يا سيدتي، أن تنشَلَّ الدولة كلُّها كلَّما حدث في البلد طارئٌ سياسيٌّ أو أمني، فتتعطّل مصالح المواطنين لأن موظفي الدولة، في معظمهم، تابعون لأسيادهم السياسيين.
جميع بلدان العالم الراقية المتقدمة المتطوّرة تشهدُ أزمات سياسية، لكن شغل الدولة لا يتعطل، لأن الموظف في خدمة المواطن لا في خدمة أسياده السياسيين الذين وظفوهم أو أدخلوهم أو حشروهم في مراكز الدولة.
بلى: من مأساتنا يا سيدتي أننا نَخلُط بين العقل اللبناني الفرديّ المبدع الخلاّق، وبين دولة متخلّفة مشغولة كمرتا بأمور كثيرة والمطلوب واحد: ألاّ تَدَعَ أبناءها يهاجرون مئاتٍ كل يوم ولا تسأل عنهم فيسافرون إلى بلدان العالم يُجَلّون فيها ويبدعون.
وعسى أن يكون ابنكِ، من غير شر، بين هؤلاء المبدعين المجلّين.