الحلقة 495: القراءة تبدأ من تحت لا من فوق
(الأحد 7 أيار 2006)
أثناء تنقُّلي الأُسبوعين الماضيين في ثلاثة مطارات: واشنطن وأتلنتا في جورجيا، وأورلندو في فلوريدا، ذهاباً وإياباً، لفتني انصرافُ الناس إلى القراءة: رأيتُهم في الطائرة يقرأون، في المطارات يقرأون، في قاعات الانتظار يقرأون، على مقاعد المطاعم في المطارات يقرأون، في القطار الداخلي بين قسم من المطار وآخَرَ يقرأون، حتى لكأن نهمهم إلى القراءة يوازي نهمهم إلى الطعام والنوم والراحة.
وصادفت مشاهداتي هذه هنا في الولايات المتحدة، أن قرأتُ قبل أيام على الإنترنت في صحف بيروت تدشين وزير الثقافة الدكتور طارق متري، لا مبنىً جديداً للمسرح الوطني، ولا مبنىً جديداً للمتحف الوطني للفنون التشكيلية، ولا مبنىً جديداً للأوبرا في لبنان، ولا مبنى جديداً للكونسرفاتوار الوطني يضم صالةً كبرى تزاول فيها أمسياتِها الأوركسترا السمفونيةُ الوطنية اللبنانية أو الأوركسترا الوطنيةُ اللبنانية للموسيقى الشرق عربية أو الأوركسترات الوطنيةُ اللبنانيةُ الصغيرة لموسيقى الحجرة، بل قرأت أن الوزير متري دشَّن أسبوع القراءة في لبنان.
عجيبٌ والله هذا الخبر أن يهتم وزير الثقافة بحث الناس على القراءة، في بلدٍ هو أبو الحرف والأبجدية في العالم.
ومع تقديريَ العالي للصديق الوزير طارق متري، وهو قد يكون من أنجح وزراء الثقافة حتى اليوم، تساءلتُ: هل أجرؤُ أن أفاتحَ أحداً حولي من هؤلاء النهمين إلى القراءة في المطارات فأخبرَه بأن وزير الثقافة عندنا يدشن أسبوع المطالعة، أو أنّ دار نشرٍ مضيئةً في لبنان (دار النهار) تجهد في مكتبة البرج بإنشاء أنشطةٍ تحثُّ الناس على القراءة؟
مشكورةٌ طبعاً “دار النهار” على سعيها النبيل، ومشكورةٌ جهود الصديق الوزير طارق متري، لكنّ وطناً تذكِّر شعبَه وزارةُ الثقافة فيه بالقراءة هو وطن منحرف عن الثقافة إلى مكانٍ آخر، وهو معروف هذا المكان الآخَر في لبنان: إنه المكان السياسي، ورؤيةُ الأولاد أهاليهم في السهرات مشدودين أمام التلفزيون إلى التوك شو السياسي أو إلى التحدَّث بالسياسة، في أيديهم لا كتابٌ مسبحةٌ يطقطقون بها وينظِّرون، مستكملين أحاديثهم في المقاهي والمطاعم منظّرين في السياسة مصطفين، كحبوب مسابحهم، بين أيدي السياسيين أقطابِ السياسة اللبنانية.
القراءة تأتي من تحت، من القاعدة، من البيت، من المدرسة، أو لا تكون. والقراءة التي تأتي من فوق، من وزارة الثقافة لتذكّرَ الناس بالمطالعة، تظلُّ فوق، غيمةً عابرةً فوق، لا يبلث أن يشلّعها هبوب الريح.
كنتم معي في واشنطن. إليكم بيروت.