الحلقة 413: عصفور في مطار أمستردام
(الأربعاء 21 أيلول 2005)
مطار أمستردام الفخم الأنيق، يعجُّ بحركةٍ ضاغطة من مئات الداخلين إليه والخارجين منه إلى اتجاهاتهم الأخرى، ومطاعمه تعجُّ مكتظَّةً بالمنتظرين مواعيدَ طائراتهم وبكل صخب الكلام والضحك والاسترخاء غير المنضبط.
وتصدف أنّ طاولتي تطل على مدرج الطائرات، وأنا مأخوذٌ بمشهد هذا الطائر المعدَني الهائل ينقل الناس بساعات من أقاصي الأرض إلى أقاصيها، متطوراً تباعاً مع تكنولوجيا هذا العصر الرائع الذي ما زال عندنا كثيرون يعيشون خارجه وخارج تكنولوجياه المتسارعة.
فجأةً: جلبةٌ أُخرى، بهجةٌ أخرى، انتباهٌ آخَر. ألتفتُ حدّي، فإذا على الطاولة المجاورة عصفور حطَّ من فضاء قاعات الانتظار، راح ينقُد بضع حُبيباتٍ تركتها فتاتان كانتا إلى الطاولة وغادرتا. مرتاحاً كان إلى استراحته على الطاولة، وغيرَ خائف: خصوصاً غيرَ خائفٍ من الجمع حوله راح بعضهم يقذف إلى الطاولة ببضع حُبيباتٍ وفتافيتِ خبز، يتناولها العصفور الآمن بكل ترحاب وينقُدها بهزهزةٍ كأن شاكرةٍ من ذنبه الملوّن. ثم طار من الطاولة إلى قضيب معدَني فاصل بين مطعم ومطعم، حيث روادٌ آخرونَ ابتهجوا به كذلك، إلى أن استنفد مباحثه فطار مطمئناً إلى مَحطٍّ أخَر في فضاء قاعات الانتظار الطويلة الطويلة كجدال عقيم.
الشاهد من هذه المشاهد: اطمئنانُ العصفور إلى الحط بين الناس هنا، غيرَ قلقٍ من اعتداء الناس عليه، فلا أحدٌ هجم ليعتقله ويحبسَه في قفص، ولا أحد هجم ليُخيفه أو يطردَه، ذلك أنّ الطير هنا، كسائر عالم الحيوان، محترَمٌ: فلا صيدَ يطارده ولا صياد يهرّبه كما عندنا حيث يقتلون العصافير ويهجِّرونها من سمانا وطبيعتنا وفضائنا.
فما أبلغ هذا الشاهد: هنا ناسٌ يرمون الفتافيت إلى عصفور يحط على طاولتهم، على ساحاتهم، على أكتافهم، فلا حسيب ولا رقيب، وعندنا ناسٌ يغتالون الناس بأبشع مما يقتلون العصافير، ولا حسيب ولا رقيب.
كنتم معي من مطار أمستردام في طريق عودتي إلى بيروت. نلتقي غداً من بيروت. فإلى حلقة الغد.