الحلقة 398: الإعلام بين التحريض والتوعية
(الأربعاء 31 آب 2005)
كنتُ أتمنى لو انّ المواطن الذي هاتفني أمس لم يتحدّث باسم مستعار وصوتٍ مستعار ولغة مستعارة. فهو لا يعرف أن رقمه تسجّل عندي ويمكنني أن أُلاحقه، ولكنني، فليطمئنّ، لن أفعل، لأن توجُّهي في “نقطة على الحرف” لن يكون يوماً إلى شخص بل إلى الناس، كل الناس، المستمعين والمواطنين، الذين هم مادة هذا البرنامج وغذاؤه الدائم وما كان هذا البرنامج منذ انطلاقه إلاّ صوتَ الناس وعينَ الناس وصدى صوت الذين لا يصل صوتهم إلى الآخرين.
متوتراً خاطبني، واتهمني بأن كلامي تحريض على السياسيين. وهذا خطأ. فالفرق واضح بين التحريض والتوعية. التحريض كلام على جهة ضد جهة، والتوعية إضاءة على جميع الجهات بلا تفرقة. وهو هذا دور الإعلام وإلاّ فلا كان الإعلام. أنا أحترم السياسيين لأنهم يسوسوننا ويسوسون بلادنا إنما، لأنهم كذلك، نقسو على المنحرفين منهم صوب ما ليس يخدم الناس والدولة والوطن. وما قلته عنهم، وما أقوله دوماً عن “بيت بو سياسة”، هو ما يقال عمن يستغلون السياسة والناس ليبلغوا مآربَ شخصيةً ليست فقط لا تنفع الوطن، بل أحياناً تُضِرُّ بالناس وبالوطن.
وما قصدتُه من أنّ السياسي خادم الناس والوطن، بديهيٌّ في دول العالم المتحضّر ولا يحكى فيه لأنه طبيعي، فما إلاّ عندنا، وعند سوانا في محيطنا من هذا الشرق التاعس، يتربَّع السياسيون على عرش بشري يتحكمون فيه مدى العمر ولايةً بعد ولاية، وأباً عن جَدٍّ لحفيد، فلا يخرج السياسي إلا من شجرة العائلة أو من نادي السياسيين التقليدي.
موجعٌ هذا الكلام. أعرف. موجعٌ كثيراً. ولكنْ… إن لم ندُلّ على الجرح كيف نبلسم الجرح؟ وإن لم نصرخْ وجعَنا فكيف نداوي الوجع؟ وإن لم نعترف بالسرطان ينخر مُجتمعنا فكيف نداوي هذا المجتمع؟
إن في مجتمعنا اليوم جيلاً جديداً يتهيّأُ كي يحكم غداً لبنان، ولن يخرج من عباءة “بيت بو سياسة” التقليديين، بل من وعي سياسي أن لبنان الآتي هو دولة القانون لا الأشخاص، ودولة المؤسسات لا قياصرة العائلات السياسية. فمن كان من تلك العائلات جديراً في ذاته، لا بمن يمثل أو مِمن يتحدّر، فله احترامُنا الكلي، ومن كان سيحكم لأنه ابنُ ذاك أو ذلك أو ذيالك، فلن يكون له مكانٌ في لبنان الآتي إلى زمان الغضَب والتغيّر.