الحلقة 393: من نبي أورفليس إلى جبران الرحباني
(الأربعاء 24 آب 2005)
غريب هذا الجبران: غادرنا قبل ثلاثة أرباع القرن وما زال يحيا بيننا من جيل إلى جيل ومن قرن إلى قرن.
قبل ثمانين عاماً وعامين كتب نبيَّه مرةً ، وما زال نبيُّه يتجدد مرةً بعد مرةٍ، إلى لغة جديدةٍ، وترجمةٍ جديدة، ورؤية جديدة، ومسرحةٍ جديدة.
وها لبنان مرةً جديدةً يستردُّ مجد “النبي” من شاطئ أورفليس الافتراضي إلى شاطئ جبيل الدهري، منذ أول أمس الاثنين وطوال هذا الأسبوع، في سياق مهرجانات بيبلوس هذا الصيف، مع العمل الرحباني الجديد “جبران والنبي” كما افتكر رؤيته أُسامة الرحباني ونسج حبكته منصور الرحباني ومشهده على المسرح مروان الرحباني، مع نخبةٍ من صُنَّاع الجمال مسرحاً وغناءً وكوريغرافيا وديكوراً وسائر مستلزمات العمل المفروض رحبانياً أن ينجح.
وبين كتابة منصور الرحباني النسيجية وألحان أُسامة الرحباني الطليعية، خرج جبران حياً من جديد، متصارعاً مع خليقته “النبي”، متحطماً على انكساراته وخيباته وحزنه المزمن، ونضراً في رؤياه الـكأنها مكتوبةٌ لليوم وكلِّ يوم، رؤيوياً على نوستالجيا إلى وطنه لبنان، أورفليسياً على طوباويةٍ أفلاطونية تفضحها أحياناً شخصيته المعقّدة.
غريب أمر هذا الجبران: غادرَنا ولم يغادرْنا لأنه غادرنا مؤمناً بأنّ امرأة أخرى ستلده، قد لا تكون امرأةً تلده من رحمها، بل امرأةً افتراضيةً تلده كلَّ مرةٍ يكتب عنه قلمٌ أو يتناوله مسرحي، فيعيده، كما أعاده منصور الرحباني، حياً أمامنا من جديد بعد غيابه عنا قبل ثلاثة أرباع القرن.
غريبٌ أمر هذا الجبران: عرف كيف يهندس حياته ويهندمها على قياسه، وكيف يهندس غيابه بعد غيابه، فعرف أن يعيش حياته وأن يهندس ما بعد موته ليقوى “النبي” على الموت بعدما ينطفئ النبض في قلم صاحب “النبي”.