الحلقة 350 – بولونيا شوبان أبقى من بولونيا السياسيين
(الجمعة 24 حزيران 2005)
بعد حلقات هذا الأُسبوع الأربع عن علاقة المبدعين بالحكام، استشهاداً ببيتهوفن وشوستاكوفيتش، أُنهي الأسبوع بهذه الحلقة الخامسة عن العبقري شوبان وما له من تأثير على شعبه الكان رازحاً تَحت الاحتلال الروسي.
كان شوبان في الواحدة والعشرين حين غادر بلاده بولونيا هرباً من الطغيان والاحتلال القيصري الروسي، واختار منفىً طوعياً في باريس. ومن هناك، كان يراقب موجات الثورة الهائجة في بلاده، ويتابع حركة الثوار ضد الاحتلال، ويكتب “بولونياته” من وحْي هذه الثورة، استنهاضاً لشعبه، وغرْزاً للحس الوطني في بلاده المُحتلّة، فكان لأعماله الموسيقية، وخصوصاً مَجموعة “البولونيات”، أثرٌ عميقٌ وكبيرٌ ومباشِرٌ على حث الثوار ورفع معنويات الشعب وتَحريضهم على رفض الاحتلال وعلى تَحرير البلاد.
اليوم، مات شوبان، ومات الثوار، وانتهت الثورة، وانسحب المحتلّون ومات زعماؤُهم، وتغيّر التاريخ وتغيرّت أجزاء من الجغرافيا، وغاب في النسيان سياسيُّو تلك الفترة، ولم يعُد يَذكُر تلك المرحلةَ إلاّ الضالعون بالتاريخ والمهتمون بالشأن التأْريخي، وهم قلَّةُ القلَّة ونُخبةُ النُّخبة وبضع مئاتٍ في العالَم بين باحثين ومُحلّلين وطلاب اختصاص، بينما مئات الملايين في العالم يُصغون إلى “بولونيات” شوبان، ويعرفون ظروف وضعها، ويقدّرون أثر هذا العبقري من منفاه الطوعي، باستنهاض شعبه في تلك المرحلة، وأثره الباقي، حتى اليوم وإلى كل يوم، في تَخليد بلاده بأعماله الموسيقية الكلاسيكية الرائعة.
مرّةً أُخرى، وحده الإبداع يؤرِّخ للوطن، وتبقى الأعمال الإبداعية هي عناوين هذا الوطن.
وجيلاً بعد جيلٍ لا يبقى في ذاكرة الناس عن تاريخ الوطن إلاّ مُخترقو التاريخ مِمّن لا يطويهم التاريخ.
وهؤلاء هم المبدعون.