الحلقة 282: من لَبْننة الحرب الى لَبْنَنَة الحرّيّة
(الثلثاء 21 آذار 2005)
جاء وقتٌ، كانت فيه كلمة “لَبْنَنَة” تعني التقاتل والحرب الأهلية وتَمزيق شرايين الأرض والوطن وَكُرْهَ المواطنِ أخاه المُواطن، والإيغال في تدمير مؤسسات البلاد، والاستسلام للخارج، والاستزلام لزعماء الشوارع والزواريب، والانقياد الى تياراتٍ غريبة واتّجاهات خارجية، والإفادة من الحرب لتحقيق مكاسبَ سياسيةٍ وغنائمَ ماديةٍ وثرواتٍ ماليةٍ وولادة لُوردات الحرب وزعماء الحرب وأثرياء الحرب، وكلُّها على حساب الوطن والشعب والدولة التي تقطّعت أوصالُها بشكل فاجعيّ.
جاء وقتٌ، قلتُ، كانت فيه كلمة “لَبْنَنَة” تعني كلَّ هذا، وأخذت تتناقلُها وسائلُ الإعلامِ والموسوعاتُ المغرضة والكتب التي صدرت عن الحرب في لبنان، فراحت أقلام الكتّاب والصحافيين تُعمِّم كلمة “لَبْنَنَة”، وتُسقطُها على أية منطقة في العالم تَحصل فيها ظواهر ومظاهر كالتي كانت تَحصل في لبنان، فباتت كلمة “لَبْنَنَة” رديفة الاقتتال والحرب الأهلية.
كان هذا خلال حرب الآخرين في لبنان على أرض لبنان، طوال سبع عشرةَ سنة، وَلَزِمَنا عقدٌ كاملٌ بعدها لنَنْزَعَ من الذاكرة الجماعية مدلول كلمة “لَبْنَنَة” ونعيدَها الى حجمها الأصلي.
لكنّ ذلك احتاج وقتاً، وكان ثَمَنُه كارثةً فاجعيّةً حلَّت على لبنان في 14 شباط الماضي، واحتاج شهراً بعدها لتنفجر في 14 آذار كلمةُ “لَبْنَنَة” الجديدةُ، وتُعلّم العالَم كيف تكون الـ”لَبْنَنَة” الحقيقية لا كما كانت تصوّرها الأقلام المُغْرضة، بل كما رآها العالم، واندهش لها العالم، ونقلتها وسائل إعلام العالم صرخة اللبنانيين واحدةً موحَّدةً موحِّدةً تنادي بـ”لَبْنَنَة” القرار في لبنان، و”لَبْنَنَة” الموقف في لبنان، و”لَبْنَنَة” الدولة والشعب والوطن مثلما يليق به مطلع القرن الحادي والعشرين في دول العالم الحُرّة.
في 14 آذار، عادت الـ”لَبْنَنَة” الى معناها الأوّل. وبعدما كانت – بِمعناها المغلوط – تتعمّم نَموذجاً سلبياً على الحالات البشعة في الاقتتال والحرب الأهلية وتدمير الوطن ذاتياً من الداخل، بدأت تتعمّم نَموذجاً إيْجابياً على الحالات المشرّفة في التماسك واطّلاب حرية القرار والتخلّص من كل قيدٍ أو وصايةٍ أو انتدابٍ أو احتلال، وتعميرِ الوطن ذاتياً من الداخل، لا تدخُّلَ خارجياً ولا قرارَ إلا القرارُ اللبناني الحرّ المستقِلّ الشجاعُ والحكيم.
بلى: الـ”لَبْنَنَة” التي كان الكثيرون اتّخذوها نَموذجاً للتشفّي، ها هي اليوم آخذةٌ في التعمُّم على دول الشرق والعالم الثالث، نَموذجاً صارخاً مُحذّراً منذراً حتى المتشفين في الماضي، أن تتعمّم على دولهم “لَبْنَنَةُ” الحرية، حين تستيقظ شعوبُهم على الفارق الكبير بين “لَبْنَنَة” الحرب و”لَبْنَنَة” الحرية.