250: وقفة وفاء في وداع عارف الريّس

الحلقة 250: وِقفَة وَفاء في وَداع عارف الريِّس
(الجمعة 28 كانون الثاني 2005)

لكثرة ما كان ساخراً من الحياة، يصعب اليومَ عليّ أن أصعدَ إلى عاليه لأودعه الوداع الأخير.
هذا الساخر بالكلمة، والساخر بضربة الريشة، والساخر بالرُّقشةِ خطاً ولوناً ومساحةَ تعبير، هذا الساخرُ بالنبرةِ والضحكة والإجابات المقذعة مرةً من مرارة وأخرى من حرارة، ظلَّ يسخر من الحياة حتّى غلبه الموت بسخرية الغياب، وفَصَلَ حضوره عن هذه الحياة.
عارف الريّس، في سنواته الأخيرة، لم يكن يتوكأ على عصاهُ، بل على سنوات عمرٍ قضاهُ في صحبة الريشة واللون، في صحبة الإزميل والحجر، وفي صحبة هذه الوساعة التي أفسح لها في حياته للّهو إبداعاً وللضحكةِ فُرجةَ تعبير، حتّى إذا انهالَ بيده على الريشة أو الإزميل، أطلع الفُرجةَ تُحفة، واللوحةَ تُحفة، والمنحوتةَ تُحفة، فإذا نَحنُ مَعهُ في رحلةِ بدعٍ خلاّقٍ من تُحفةٍ إلى تُحفة.
عارف الريّس، الممتلئ حياةً أوسع من الحياة، يصعب اليومَ عليّ أن أصعد إلى عاليه وأراه مَمدداً حياة بلا روح، وجسداً بلا حياة.
عارف الريّس وهو رائدٌ بين الكبار، رافق زملاءه الكبار، نَهض معهم بالفنِّ التشكيلي في لبنان، مؤسساً معهم نَهضةَ هذا الفن، راسِماً معهم ملامِحها، ناحتاً معهم عصرها الذهبيّ، واليومَ إذ يُغادر، لاحقاً بِهم، يترك بعده إرثاً تشكيلياً غنياً يشكّلُ ركيزةً عظمى في صرح عمارة الريشة والإزميل في لبنان، ومن لبنان إلى العالم.
عارف الريّس الفنان بامتياز، والنِّقابيُّ بامتياز- مؤسساً أوّل في جمعية الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت- يترك بعده لا فراغاً وحسب، بل صحراءَ انتظار حتّى يَجيء بعدهُ من يُعشِبُ هذه الصحراء بدعاً على مستوى ما كان إبداع عارف الريّس.
فيا عارف، سأحمل ظهر اليوم صوتك في عينيّ، وسخريتَك في بالي، وأذهب إلى عاليه أودعك الوداع الأخير، وللمرة الأولى لن تستقبلني بصوتك المُحِبّ، وطعقةِ سخريتك القافيَّة، لكنني أعرف أنّك اليوم ولدت في مكانٍ آخر، فَخُذ بِيَدي وأنا أودِّعُ جسدك، وطمّنّي عليك، حيثُما أنتَ منذ اليوم، حتّى، كلّما زرتُكَ في خيالي، تبقى أنتَ أنت، بِمحبتِك وصداقتك، وهذه الضحكةِ التي تُخفي الكثير من مرارة الأيام. فعسى أيّامك بعد اليوم تشعُّ بنبضةِ الحرارة من دون قبضةِ المرارة.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*