الحلقة 218: صيدا القديمة… ذاكرة المستقبل
(الأربعاء 15 كانون الأول 2004)
حين اصطحبني الأصدقاء الصيداويون الأسبوع الماضي الى أسواق صيدا القديمة، كان مذهلاً ما رأيته فيها واستغربتُ ألاّ يكون معمماً سياحياً ولا أثرياً ولا حتى تربوياً مدرسياً.
ففي صيدا سوق طويل بعدة أسواق، مسقوف كلُّه حتى لتمكنُ زيارته شتاءً من دون خشية المطر. ففوقه أبنية وممرات وسكنٌ ومعالم، وهو كأنه تحت الأرض مع أنه ليس كذلك، تَحُفُّ به الْمحالّ من الجانبين، ويتفرع روافدَ وشُعَباً بين البيوت والأحياء الصيداوية القديمة في شكل رائع التصميم، كامل البنية التحتية بكل تفاصيلها: هنا عين ماءٍ كانت للخيول، هنا كهفٌ كان محلاً، هنا بيت يُرقى إليه بدرج صغير، هنا طاقةٌ كانت مدخل بيت أو محلّ، هنا مقهى، هنا مطعم، هنا دكّان، وهنا وهناك وهنالك عجقةُ ناس وحركة بيع وشراء كما في أي سوق عادي أو مودرن.
دخلنا من شارع الشارع، مروراً بمصبنة عودة التي أعاد ترميمها ريمون عودة ورمم لأجلها الحي المحيط حجارةً وحفافي وواجهات بيوت وشارعاً استعاد وجهه التاريخي، ثم مررنا بقصر دبانة المنتصب جمالاً، وتسلحفنا الى أحياء سوق القماش وسوق الخضرة وسوق النجارين وسوق الكندرجية، ولكل سوق طابعه المتوارث أباً عن جَدٍّ حتى أبناء اليوم، مهناً مستقلَّةً في حيز مستقلٍّ ضمن السوق المتخصص. ومررنا بباب السراي وببابين مقفلين مهملين كانا بابي مطبعة العرفان للعالم الفقيه الكبير أحمد عارف الزين صاحب مجلة العرفان وواضع تاريخ صيدا، وانتقلنا الى قهوة القزاز في كهوف متقاطعة جميلة مقشورةٍ بأناقة، وتوقفنا عند حمام الشيخ وتأملنا جامع الكيخيا فجامع القطيشية في جوار كنيسة الروم الأرثوذكس وكنيسة الروم الكاثوليك وهُما كنيسة واحدة بشقين، حتى إذا بلغنا ثانوية المقاصد الإسلامية في ضهر المير، وقفنا نتأمل الجامع العمري الكبير المشرف على البحر حيث كورنيش صيدا الجديد.
ساعةٌ من العمر قطعتُ فيها جميع هذه المعالم، والشباب يشرحون لي، بحماسةٍ صيداويةٍ عفويةٍ وثقيفة، ما لو توفّر له دليلٌ مختصٌ يشرحه لأفواج الزوار والسياح، لكانت الزيارة الى صيدا القديمة تكتسي طابع سياحة ثقافية يحتاجها، قبل السيَّاح، لبنان واللبنانيون في سياحاتهم الداخلية.
صيدا القديمة، بغناها التاريخي والحضاري، ذاكرة مستقبلية للبنان الذي بها وحدها، هذه الذاكرة المستقبلية، يقف شامخاً بلا وجل ولا خوف أمام العولمة الزاحفة إلينا، معتقدةً أننا… بلا ذاكرة للمستقبل.