الحلقة 160: انطباعات من برشلونة (الجزء الخامس): أَدبيَّاتُ الإلقاء وأخلاقياتُ الإصغاء
(الجمعة 24 أيلول 2004)
وفي برشلونه أيضاً، حضرتُ الجلسات التسع لِمؤتمر الأونسكو “أبْجديات جديدة لِجهالاتٍ جديدة – تَعَلُّمُ العيش معاً في ساعة العولَمة” شارك فيها رؤساءُ دول وحكومات ووزراء خارجية وتربية، وعلماءُ كبار واختصاصيون وأكاديمون ومؤلفون وإعلاميون، وأدارها كبارٌ في مُختلَف الحقول.
وإنْ ليس المجالُ الآن لِمضمون المؤتَمر، أتوقَّف عند الشكل: وهو أدبياتُ الإلقاء على المنبر، وأَخلاقيات الإصغاء لدى الجمهور. كان لكل جلسة من ساعتين، أربعة متداخلين، فكان مدير الجلسة يعطي ربع ساعة لكل متداخل، حتى تنقضي الساعة وتبقى الساعة الأُخرى لِمداخلات الحضور.
ولم يكن أحدٌ في حاجة إلى بوليس ولا إلى تنبيه مدير الجلسة. كان معظمهم ينْزعون ساعات يدهم ويرمقونها خلال حديثهم، حتى إذا أزف الوقت اختصروا وأنهَوا. مرةً واحدةً اضطُرَّ مدير الجلسة إلى التدخُّل منبِّهاً رئيس جمهورية مالطه غويدو دي ماركو أن دقائقَه الخمْسَ عشْرَةَ انقضت، فاعتذر فوراً لِمدير الجلسة قائلاً: “عفواً حضرة الرئيس، لَم أنتبه للوقت”. وختَم كلامه.
وكما على المنبر، كذلك في الحضور، وكانوا أساتذة وعلماءَ ورجال دولة ومثقفين. فلم أرَ علكةً تُمغِّط في فم أحد، ولا سمعتُ خلوياً يزعقُ في القاعة، ولا لَمحتُ اثنين يتحادثان جانبياً، بل لاحظتُ الجميع يدوّنون أفكاراً وملاحظاتٍ وآراءً فيطلبون الإذن بالكلام في نهاية كل فِقْرَة، ويسألون أو يُدلون برأْيهم في اختصار بدون تطويل ولا عرض حالات، بكل احترامٍ ولو خالفوا الرأْي.
والشاهد: هو بين ما عاينتُه هنا في برشلونه، وما يَجري عندنا في لبنان: لا الخطيب على المنبر يَحترم وقت الحضور، ولا الحضور في القاعة يَحترمون مَن على المنبر، ولا مدير الجلسة يَحترم سائر خطباء المنبر والحضور بأن يكون حازماً في ضبط الوقت.
إن الناقص عندنا، في معظم الاحتفالات المنبرية: أدبياتُ الإلقاء من خطيب يُمسك بالميكروفون فيجلُد وقت الناس بإطالاتِه المُمِلَّة، وحزمُ رؤساء جلسات ضعاف الشخصية، وأخلاقيات حضور يتجاهلون الخطيب بأحاديثهم الثنائية ووقاحة أجهزتهم الخلوية، وهذا دليلُ تَخلُّفٍ عن أدبيات المنبر الأخلاقية كما تعرفها دولُ العالَم الحضارية.
والى اللقاء صباح الاثنين في انطباعٍ آخرَ من هنا، من برشلونة… إليكم بيروت.