العمل الإبداعي بين النقد والانتقاد
الجمعة 27 تشرين الثاني 2009
– 625 –
بين أسوإِ ما يُصاب به مُجتمعٌ، أن يُفسَدَ فيه القضاء ويَختلّ فيه ميزان العدل بين الرشوة والانحياز والإجحاف. وبين أَسوإ ما يُصابُ به وسَطٌ ثقافيّ، أن يُفسَد فيه النقْد ويَختلّ فيه معيار الحكْم على الأعمال بين المسايرة والمهادنة والظلْم المنحاز.
وإذا كان للقضاء مرجع أعلى يحكم بـوقْف القاضي أو معاقبته أو فصله، فمرجع الناقد جمهورُه الذي لا يرحم ولا يساير، ولا يحاسبه بالحكْم عليه فقط، بل بنزع المصداقية التي إذا فَقَدَها الناقد فَقَد ثقة الناس في سائر ما يكتبه أو يعطي رأيه فيه. وأسوأُ ما يصاب به ناقدٌ أن يَخسرَ مصداقيّته لدى قرّائه فيخسر مبرّر كتابته ونقده وأحكامه وحتى مبرّر حضوره في الوسط الثقافي.
والحاصل عندنا انْحسار “الناقد” ذي الحكْم الموضوعي العادل، الصارم في حقّ، الفاصل في إنصاف، الحاكم في موضوعية مبنية على أسس وقواعد معايير علمية تُبدي الأبيض وتشير الى الأسوَد في توازن لا يقلّ عن ميزان القاضي والصيدلي.
وما نشهده أحياناً في وسَطنا الثقافي، عدا بعض الجمهور الذي “في وجهَين ولسانَين”، أنّ مَن يرتجلون حضورهم “نُقّاداً” يكونون أحياناً هم أيضاً “في وجهَين ولسانَين”، فيُبدُون في الاحتفال انتقاداً وامتعاضاً من المستوى أو من ذوي الاحتفال ثم تطالعنا مقالاتُهم بعده نقداً بِمديح يكيلونه للاحتفال وذويه منفصلٍ تماماً عن انطباعاتهم خلال الاحتفال.
والأمر نفسه ينسحب على الآثار المنقودة (كتاب، مقطوعة موسيقية، مسرحية، مشهدية، لوحة، منحوتة، …) حين يصدر المقال “الناقد” مادحاً أو مُسايراً، ويكون رأْي “الناقد” غير ذلك حين شاهد العمل أو قرأَه.
وقد يحدث عكس ذلك، حين ينهال “الناقد” على الأثر تجريحاً وتهشيماً وتدميراً لسبب شخصي أو دافع شخصاني أو نفسيّة مريضة، مبرراً ذلك بـ”حرية الرأي” أو “شرعية النقد” أو “هيبة السلطة” (إن كان مسؤولاً في منبر صحافي).
والسيّئُ أيضاً أن يصدر النص “النقدي” انطباعياً أو تسجيلياً أو سردياً أو وصفياً أو نقلاً أفقياً للأثر من دون أيّ رأي مبنيٍّ على معيار، فيكرّسه كاتبُه “نقداً”، ويَحسبه صاحبُ الأثر “نقداً”، ويعتبره القراء “نقداً” وهو ليس من النقد في أيّ مقياس.
الناقد الحقيقي كالقاضي أمام ملف قضية: يفصل في الملف مرتكزاً الى نُظمٍ ومعطيات ومراجع وسياق، وكذلك الناقد أمام أثر إبداعي: يفصل فيه مرتكزاً الى أُسس ومقاربات ومقارنات وقياسات من منظور نقدي ومنظار موضوعي، عائداً الى مناهج ومصادر ومدارس وتيارات من خطّ الأثر نفسه، فيقارنه بما سبق ويُبرز جديده (أو لا جديده) ويفصّل أين أفلح صاحب الأثر وأين أخفق، وما الإضافات التي جاء بها (أو لم يأتِ بها) وما مكان هذا الأثر في سياق أشباهِه من الآثار السابقة (لصاحبه أو لسواه). وهذا يفترض أن يكون الناقد ذا خلفية غنية في الموضوع المنقود، كي يأتي نقده علمياً أكاديمياً منهجياً مثقًّفاً يُغني ويُفيد.
وصولاً الى هنا، على الناقد أن يكون خبيراً في الحقل الذي يعالجه، فلا ينقد عملاً موسيقياً إن لم تكن له الثقافة الموسيقية الغنية الكافية، ولا عملاً مسرحياً إن لم تكن لديه الثقافة المسرحية الوافية، ولا عملاً شعرياً إن لم تكن له خبرة شاسعة في الشعر والشعراء، الى سائر القطاعات الإبداعية التي لا يجوز أن يقاربَها نقدياً مَن ليس في جعبته الثقافية زادٌ يعصمه من الزلل.
أما أن يسرد الناقد “أفقياً” ما في الأثر، ويأتي في نهاية نصه برأْي انطباعي (سلبيّ أو إيجابي، لا فرق) فهذا كلام مسطَّح مبنيّ على علاقةٍ شخصية مع صاحب الأثر (تقترب أو تنفُر)، ينجُم عنها مديح مجاني أو هجوم مَجّاني لا قيمة نقدية له ولا وزن.
في تاريخ الآداب والفنون أمثلةٌ كثيرة لنُقّاد كان لهم في تقييم العمل الإبداعي رأيٌ صائبٌ خضَع له صاحب العمل ومتلقُّوه، بل أكثر: كانوا ينتظرون رأي هذا أو ذاك من النقاد الثقة كي يُقبلوا على العمل أو يُشيحوا، مؤْمنين بأن رأي الناقد مبنيٌّ على زاد لديه يُخوّله الفصل العادل، تَماماً كما ضمير القاضي يُخوّله الفصل العادل في ملف قضية.
ومن كان في وسَطنا الثقافي يَحمل هذا الزاد فَلْنُكرّسْهُ “ناقداً” ولْنَرْكُنْ إليه.