الشاعر … ضمير الإنسانية
السبت 4 تموز 2009
– 604 –
صورةٌ مَهيبةٌ للشاعر من فيكتور هوغو تذكّرتُها وأنا أمشي في المنطقة القديمة من مدريد، أمُرُّ في “حيّ الأدباء” وأرى المارّة والسيّاح يتوقّفون عند نقاطٍ من الأزقة الضيّقة المخصّصة للمشاة، يقرأُون على الأرض عباراتٍ أو أبياتاً من الشعر مَحفورةً بالنحاس الأصفر، عميقةً في قلب البلاط، مقطوفةً من نصوصٍ أو قصائدَ لشعراء إسپان ذاتِ بلاغة عميقة تُخاطب شعب إسپانيا وكلَّ شعب: هنا لوپّه دي ڤيغا، هناك سرڤانتس، هنالك بيكير وخاسيتو پيتافينته، وشعراء إسپان آخرون مَحفورةٌ أقوالُهم في هذه الشوارع كما لتُنبّه المارّة أنّ الشعرَ هنا، حاضرٌ هنا مَحطاتٍ بليغةً للتذكار والعبرة، يَحملها معهم سياحٌ وسكانٌ ومارةٌ عابرون لا يعودون عابرين حين ترسخ في بالهم قَولةُ شاعرٍ مَحفورةٌ في الأرض، ترتفع من الأرض إلى البال، وتبقى مضيئةً في الذكرى ولو غابت عليها في الليل شمس مدريد العتيقة.
وفي تلك الشوارع حِفْظُ الأماكن: هنا البيت الذي سكَنَهُ سرڤانتس وفيه كتب رائعته “دون كيخوته”، وهناك البيت الذي دخله كريستوف كولومبس ليجتمع بالملكة إيزابيلاّ يقنعها بتمويل رحلته إلى أرض مَجهولة ستصبح أميركا في ما بعد.
أَمشي أَمشي في شوارع “حي الأدباء” كأنْ لا أُريد أن تنتهي الشوارع ولا أن ينتهي التذكار، وأتوقّف عند كلّ مقطع نُحاسيّ مَحفور في الأرض وفي الذاكرة، من شعراء غابوا في زمانهم كي يظلُّوا خالدين لكل عصر، ويكونوا هُم حُكّام الزمان.
تلك الصورة المهيبة للشاعر تذكّرتُها هنا في مدريد من فيكتور هوغو في قصيدته “الرسالة” (1848) رسَمها مَجداً للشاعر لَم يسبقه إليه أحد، فجعله صاحب رسالة لشعبه وعصره والإنسانية في كلّ زمان: “الزمنُ للعباقرة الذين يَسِمُون عصرهم وكلّ عصر”. ويُخاطبُه: “دورُكَ أن تُنبِّه وأن تظلّ متّقد الذهن والفكر”. ويُسبِغ عليه المسؤولية: “الشاعر، في الأيام الصعبة، يُهيِّئُ أياماً أفضل. هو رجُل الطوباويّات، قَدَماه بين الناس لكنّ عينيه في البعيد. يتّهمونه، يسيئون فهم دوره وصوته ورسالته، لا يهتمّ: يظلُّ يفكّر، روحه تنبض في صمت فيسمع ما لا يسمعه الناس”. ويوغل أكثر فيرى الشاعر “يتخطّى الأبعاد المثالية ويبلغ الأفعال الناجعة”. ويرسم له دور القائد في شعبه: “مهما تَنَكَّر لكَ الناس، تظلّ أنتَ فيهم الصوت الوازع والبشير الناصح والصوت الهادي، تبادلُهم وتباركهم. إذا تَخاصموا تَجعل صدرك درعاً لوقايتهم، وتفلش روحك ساحةً لَهم كي يتعانقوا، وتظلّ تُخاطبهم، تصلّي لَهم، تشدّد الضعفاء منهم وتراعي الأقوياء، تبسم لنجاحهم وتبكي معهم على موتاهم”. لذا لم يتردّد من أن يصرخ: “إنْهَضْ يا شعبيَ انْهض، ويا سماءُ أرعدي: إن فرنسا في ليلها العميق سترى مشعلي يضيء لها طريق الصباح. ستُرعد أبيات قصائدي وسأدخل ممجَّداً أحمل العدل في روحي والسوط في قبضة يدي”. لا عجب بعدها أن يُعلي الشاعر إلى قمة المجد: “كلماته تُهدّد الظلم وتلتمع في العتمة، ويداه تَحملان المشعل في قَتَامة الليل. الشاعر هو مَن يهزّ الضمائر في كل عصر ومكان. وكما الرُّسُلُ والأنبياء: مهما كالوا له الشتم أو المديح، يحمل في يده المشعل الذي يضيء لشعبه طريق المستقبل”. إذاً كلماته أقوى من حاكم، أبلغُ من نص عابر في مناسبة ومكان. وكم من الحكّام خلدوا لأنهم دخلوا في قصيدة شاعر، غابوا هم في الزمان وظلّوا أحياء في القصيدة، وكم حبيبةٍ جذلى بشاعرها مَنَحَتْهُ شاعريةً بِكْراً فخلَّدتْهُ وخلَّدَها.
يقظةُ الشعب يريدها فيكتور هوغو مرصودةً على الشاعر؟ بل هي يقظةُ كلّ شعب، في كلّ عصر، يَكُونُها الشاعر صرخةً في الضمائر: وعدَ النُّور في حُلكة العتمة، وعدَ النهوض في زمن اليأس، ووعدَ الفجر في زحف الليل الطويل.
هوذا دور الشاعر خارج القصيدة: أن يكون المشعلَ المضيءَ الطريق، المضاءَ طوالَ الطريق، الضوءَ الذي يَحرس الطريق.
أيُّ مَجدٍ للشاعر، بعدُ، أكبر: أن يكون مُرسَلاً في شعبه، ضميراً لشعبه، ومشعلاً لعصره ولكل عصر!!
ويكون من هذه الصورة المجيدة أنّ الشاعر لا يقتصر على وحدِها القصيدة، أرضِه ومَملكتِه، بل يتخطّاها إلى أن يكون في شعبه القائد، في عصره الوازع، وفي زمانه القبضةَ على باب المستقبل.