لغة مشتركة للشعوب؟ الموسيقى!
السبت 27 حزيران 2009
– 603 –
احتفالات “عيد الموسيقى” (21 حزيران) عمَّت هذا الأُسبوع دولاً عدةً، وعندنا في لبنان تحديداً، دلّت على الابتهاج بالموسيقى لا بما هي فنٌّ وحسب، بل كنمطِ حياةٍ، وأُسلوبِ عيش، وإيقاعِ تفاعُل وتَواصُل وتكامُل.
ومن الدلالات العميقة حول هذا الموضوع أن تحتفي وزارة الثقافة والتواصل في فرنسا بيوبيلها الذهبي نهار عيد الموسيقى باحتفال “50 سنة من الأغنية الفرنسية” وأن تُخصِّص عيد الموسيقى، في دورته الثامنة والعشرين، لهذا اليوبيل بالذات.
هذا الأمر يأخذنا إلى كون الموسيقى شافية (من الحالات الصعبة)، وافية (باكتمال عناصرها)، عافية (بِما تَحمله من بَهجة للروح)، كافية (في ذاتها لغةً للتخاطب)، نافية (كل ما دون الذوق الجمالي).
فالتواصل في الموسيقى يصل بين الشعوب والحضارات، ويأخذ في رحلة عبر المكان والزمان، كما تابعنا لورينا ماك كينيت في افتتاح مهرجانات بيببلوس أخذتْنا عبر الموسيقى والأغنيات والآلات في رحلة عبر الماضي وترحال إلى الحضارة السلتية العريقة التي عرفتْها بلادها الأُم إيرلندا منذ العصُور السحيقة.
ولكل نوع من الموسيقى عالَمه الوسيع وعصوره الذهبية ومتلَقُّوه المتذوّقون، من الكلاسيكية العريقة إلى الشعبية الرائجة إلى البلوز إلى الروك إلى الجاز، وكل نوع منها يَحمل في ذاته حضارة شعبه (أو حقبات شعوبه).
أهمية الموسيقى أننا، حين نسمعها، لا نصغي فقط بل نقرأ ونشاهد ونذهب إلى مكانها وزمانها وعصرها وأعلامها، فتكتنز فينا ثقافتها، كما لو اننا نطالع في كتاب التاريخ أعلاماً ومعالم.
وما شهده لبنان، طوال هذا الأسبوع، في العاصمة بيروت أو في المناطق من احتفالات وبرامج، يشير واضحاً إلى التعدُّدية الحضارية التي يتميَّز بِها لبنان في استيعابه واحتوائه أنماط الموسيقى من كلّ نوع، وتالياً في استدعاء ذاكرة جماعية كاملة تختصرها أغنية أو قطعة موسيقية. فالعمل الفني ليس تعبيراً فردياً بل هو حصيلة عهد أو فترة أو حضارة أو نمط أو طريقة عيش تجسدها مقطوعة لَحنيّة أو أغنية أو آلة موسيقية تَختزن في أنغامها وتكوينها حقبات من التاريخ والتداعيات الشعبية عبر عصور ازدهارها أو تناميها. فالموسيقى، ولو تؤدّيها آلة أو يوصلها صوت، هي مرآةُ ذاكرة جماعية لشعوب وحضارات، تصوّر حقباتِها أو معانياتِها أو مناسباتِها أفراحاً وأتراحاً، وتحمل المعاناة في جميع أحوالها المريرة أو السعيدة.
بِهذا تكون الموسيقى همزة تقارب بين الناس يتعرفون إلى خصائص بعضهم البعض عبر العزف أو الغناء أو الأداء، فيكون العمل الفني أبعد من مُجرد نغمات أو أداء كلمات، ليصبح حواراً عبر الموسيقى في لغتها الكونية السحرية التي لا تحتاج ترجمة ولا تفسيراً لأنها تتوجه إلى القلب والروح لا إلى الذهن والعقل.
في كل عمل موسيقي (تأليفاً أو غناءً) قراءةٌ للماضي بآلاته ونغماته، وانفتاح على الغد آفاقاً وِساعاً لاستشراف عالَم لا تحتاج لغته نقلاً إلى أخرى كي تصل إلى الملتقي في لغته، بل هي لغة الشعوب جميعاً، لغة صامتة بليغة النطق، حروفُها نغماتٌ تبلغ الذائقة، وكلماتُها ميلودياتٌ تنطلق من نوطات مبهمة لتكوّن معاً لغةً سائغة جميلةً تحمل صوراً من الماضي وملامح من الحاضر وأطيافاً جميلةً من المستقبل، وهذا ما يجعلها خالدةً على الزمان في كلّ مكان وزمان، وذاتَ تأثير مباشر في العلاقات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية.
إذا الموهبة الفنية عطيةُ الله فالقالب الفني عمل المبدع الذي ينقل عيد الموسيقى (هذا الأُسبوع) إلى يوم الموسيقى كل يوم كي تكون الموسيقى لغة اللغات التي تصقُل وتُهذّب وتثقِّف وتحمل إلى العوالم الأجمل، فإذا هي قبلة الروح إلى الروح، من قلب المبدع الخلاّق إلى قلب المتلقّي حيثما يَهنأ قلبٌ ينبضُ بالحياة والجمال.