قبل أن يَضْمُرَ بِهِم جِـلْـدُ لبنان
السبت 18 نيسان 2009
– 593 –
في السائد أنّ “الشَّغْرِين” جِلْدٌ غيرُ مدبوغ، سطحُهُ خشِنٌ مُبَرغَل مُحَبْحَب، مأخوذ من الحمار الوحشي أو كلاب البحر، واستعمالُهُ رائجٌ في الكشط أو تَجليد الكتب أو صُنع مِحفظات الجيب أو مسكات السيوف والخناجر. و”الشَّاغْ رين” كلمة تركية تعني “ظهر الحصان”. غير أن المبنى اللغوي والمعنى الاستعمالي أقلُّ شأْناً من الشكل خلف مضمون يرمز الى “الاختيار بين حياةٍ طويلةٍ بدون فائدة، وحياةٍ قصيرةٍ ذات فائدة”. ويذهب الرمز أبعد فيبلغ أسطورة تَجعل أنّ هذا الجِلْد السحريّ يلبّي لصاحبه جميع رغباته لكنه يتقلّص تدريجاً عند تَحقيق كلّ رغبة، وهنا الخطر: مُمارسة الرغبات والأهواء بواسطة هذا الجِلْد (كالقطّ الذي يلحس المبرد) حتى نَفاد هذا الجِلْد متقلّصاً الى حدّه الأدنى حين يصبح رقيقاً ضعيفاً يابساً فينكسِر ويَتَفَتَّت. من هنا (في الفرنسية) مرادفات ستة للكلمة: التقلُّص، الاختفاء، التناقُص، الامّحاء، الترقُّق، التلاشي. ومن هنا ضرورة الحكمة في استخدام هذا الجِلْد اللمّاع الجميل في رَويَّة وبدون إفراط متهوِّر أرعن. وهذا ما جعله الروائي الفرنسي الكبير هونوريه دُه بلزاك (1799-1850) مِحور رائعته الخالدة “الجِلْد السّحري” (أو “جِلْدُ الشَّاغرين”- 1831) حول شابّ متهوّر كان يائساً بعدما انْهار حبُّه، واكتشف الجِلْد السحريّ لدى بائع خُرضَة عتيقة فراح يستنفد طاقاته الجسدية رغباتٍ ونزواتٍ وشهواتٍ، ومع تَحقيق كل رغبةٍ هوجاء وشهوةٍ مرهِقَة يتقلَّص الجِلْدُ أكثر، ويَضْمُرُ ويترقَّق، وظلَّ يتضاءَل ويصغُرُ حتى انكسَر الجِلْدُ والشابُّ معاً عند النزوة الأخيرة.
الى أين من كل هذه المقدمة؟ الى لبنان.
لبنان الذي يستغلّ كثيرون لَمعانَ جماله (بِجميع معاني الجمال الطبيعية والتاريخية والشعبية والطاقَوية من كل نوع) ليزاولوا فيه ومعه وعليه ومنه شهواتهم ورغباتهم و”طموحاتهم” و”مشاريعهم” وانتماءاتهم ومُضْمَراتهم ومُعلَناتهم فيمتصُّون خيرات لبنان، ويَمتطون أكتاف الأُلوف من شعب لبنان، ويقطفون خيرات من اقتصاد لبنان، ويتنعّمون بفسحات عريضة من الحرية السياسية والفكرية والصحافية والمالية في لبنان، فتزداد ثروتهم ثروات، وتضاف الى شهوتهم الاستغلالية شهوات، وتتوسّع مساحة هناءاتهم المادية والمعنوية الى مساحات، وعند ساعة الصفر، عند ساعة الحقيقة، عند ساعة القرار، عند ساعة الاستحقاق يَحملون ما غنموه وينسحبون، الى فضاء آخر ينسحبون، الى قرار آخر ينسحبون، الى عقوق آخر ينسحبون، تاركين وراءهم وطناً ضَمُرَ من شدّة ما امتصُّوه واستغلّوه ونكَّلوا به وصولاً الى غاياتهم، حتى إذا احتاجَهم يوماً لنُصرته أو دعمه أو مساندته أو الانتصار له في موقف أو موقع أو موطن، أشاحوا وتَيَوْضَسُوا (على مثال يوضاس) فأعلنوا انتماءات أخرى الى هنا أو هناك أو هنالك من الأوطان والقوميات والأمَميّات والإيديولوجيات والمعتقدات والهويات والاستسلامات والاستزلامات وتَحالفات داخية وخارجية تَقيهم (ولو موقَّتاً) ولا تَقي لبنان.
شهوة الحُكْم والتحكُّم والاستحكام تُعميهم فيَغفَلون عن أنّ جِلْد لبنان يتقلّص من تَحقيق شهواتهم، ويَضمُر من استنْزافهم طاقاته البشرية والمالية والاقتصادية والشعبية حتى ليكاد يرقُّ الى أن ينفد، ولا يعرفون أن خيرات قطفوها منه قد تَجعل لَهم موطِئاً في موطن آخر لكنها لا تَجعله لهم وطناً، لأنهم سيظلُّون مطرودين من كل وطن يستقبلهم ويعرف أنهم لصوص هياكل سرقوا خيرات هيكلهم وأنكروه ثلاثين مرة ثلاث مرات قبل صياح الضمير.
هؤلاء اليوضاسيون، أحفاد يهوذا الخائن سيّدَه (وما أهون خيانة الأسياد أمام خيانة الوطن) سيجيء يومٌ يَعُون فيه أن جِلْد لبنان لا يَضمُر بين أيدي المخْلصين بل يزداد لَمعاناً وتألّقاً، لكنه يتقلَّص بين أيدي خَوَنَةٍ وقَعوا ضحايا شهواتٍ لَهُم سفحوها على… جِلْد “الشاغرين”.