بين الرّهبة والرّهاب والترهيب والإرهاب
السبت 28 آذار 2009
– 590 –
الرُّعب الذي أصاب الأميركيين، حكومةً وشعباً، بعد “11 أَيلول”، لم تنهض منه أميركا بعد، ولعلّها لن تنهض في مستقبل غير قريب، ولن تَخفّ تدابيرُ اتَّخذتْها، ولا تزال تواظب على إجرائِها، في رهبةِ رهابٍ متواصل الترهيب من الإرهاب.
وتبني الدولة الأميركية على ذلك كي تواصل حملاتها الرسمية لتحفيز الشعب على “التبليغ عن أيّ اشتباهٍ قد يودي الى اعتداء إرهابي” في باص أو قطار أو أينما كان، ما جعل السلطة الأميركية تَخلق جواً مشبوهاً استشباهياً استنهض منظمات للدفاع عن الحريات المدنية والفردية (كـ”التحرُّك باتجاه التوعية”) للقيام بِحملات مضادَّة تدعو الناس الى الحذر لا الى الرعب، والى التنبُّه لا الى الوُقوع في “پـارانُويا” أقتَل من عمل إرهابي. لذا راحت تلك المنظّمات الأهلية توعّي الى أن الخوف من الموت بتفجير إرهابي أو من شخص مشبوهٍ عند إسقاط التهمة المشبوهة عليه، لا يبقى مُجرّد خوف بل يتحوّل رعباً يؤدّي الى إطلاق أو ارتجال أحكام مسبقة ترتدّ على مطْلقيها فتجعلهم يَرَون في أوهامهم غير ما يَرون في الواقع. ولذا قرأ الركاب في أحد الباصات: “العام الماضي رأى 1944 نيويوركياً شيئاً وقالوا غير ما رأوه” (كما ورد في تَحقيقٍ من مدينة باترسون – نيوجرزي، كان جزءاً من بَحثٍ دعمته منحةٌ من مؤسسة وودرو ولسون في واشنطن. وكان عنوان التحقيق: “أجهزة الأمن الأميركية شَنّت على الإرهاب حرباً داخليةً، مفضِّلةً أن تنتهك حريات المواطنين على أن تُخطئ في التوقيت”).
الإصابة بِهذا الرُّهاب (من فكرة أو شخص أو وهم) تُسبّبها تعبئة نفسية جماعية لا تُمكن مقاوَمَتُها إلاّ بتكذيب الأوهام التي، تحت ضغط الرعب الفردي أو الجماعي، تَخلق أحكاماً مسبقة تؤثر على المنطق والترَوّي والحكمة وتالياً على تصرُّفات جماعية ناجمة عن الشكوك. فالاتّهام الخاطئ يسبّب الشك. والخوف من أيّ استيهام (طرح سياسي، ممارسة سياسية، تصريح سياسي،…) يؤدي الى وهم آخر (غير واقعي) من مظاهره تكبيرُ المخاوف بإزكاء الصراعات وإلقاء التُّهَم على مجهول أو معلوم.
من هنا ضرورة خلق مناخات صدق واضح، والمبادرة الى التحاور (لا الحوار) والتخاطب (لا الخطاب) والتعارف (لا المعرفة) وصولاً الى صحة الإدعاء أو عدمه، والى تثبيت الشك أو نفيه، فيرتاح المرعوب من عذاب الترقُّب والاقتراف والتهديد.
وهكذا تنتفي حالات الادّعاء والتهديد والشكّ والترقُّب والشبهات والتفادي، حين تتزايد المؤشرات الآيلة الى الثقة والملاذ الآمن وإقدام المعنيين طوعياً على عيش حياتهم في إيقاع طبيعي.
هذه الظاهرة التي تعتلج حالياً في المجتمع الأميركي، رسميِّه والشعبيّ، بِما فيها من تنبيه وتسفيه، وتَحذير وتبرير، وتَخويف وتسويف، وزرع الرهبة في القلوب، والرُّهاب في الأفكار، والترهيب من الإرهاب، لم تَغِب بعدُ عن أذهان اللبنانيين وقلوبِهم ونفوسهم وشكوكهم وقلقهم وأفكارهم و”هلوساتِهم” في تنقُّلاتِهم وتَنَبُّهاتِهم وتلفُّتاتِهم وحذَرهم ورُعبهم عند شكّهم في وجه، في شخص، في حركة، في تَحرُّك، في اجتماع، في تَجمُّع، في مَجاميع، حتى بات تَحَرُّكُهم (في معظمه الواعي) مشوبَاً بـپارانويا مدمِّرة، مقنَّعة مرةً وحاسرةً مرات، تغفو فترةً وتستيقظ فترات، وفي كل مرة وفترة تعكّر عليهم هناءة العيش.
وجاء الآن موسمُ الانتخابات التي لَم تَعُد تفصلنا عنها سوى عشرة أسابيع، لتزيد من إيقاظ تلك الپارانويا في النفوس والقلوب والأفكار، تَزيدُ من تَزايدها تصاريحُ سياسيين يَحْذَرون أو يُحَذّرون أو يُحاذرون، ما يَخلق في المواطنين جواً عاماً من قلق يومي بات هلوسةً لدى البعض وحذراً لدى البعض الآخر، حتى تكاد الإشاحةُ عند كثيرين تَميد بِهم الى الإحجام.
الدولة تفرض الرهبة. السياسيون يزرعون الرُّهاب. المغْرضون يبثُّون الترهيب. الحصيلة: وقوعٌ تَحت الإرهاب. والمواطن يعيش يومه في حصار بين جهاته الأربع: الرهبة والرُّهاب والترهيب والإرهاب. وهنا معيارُه ليختار بين المخْلصين والمغْرضين من المرشَّحين، وهنا سيفُهُ المصْلَتُ عليهم في… صندوق الاقتراع.