بيروت المسرح… بيروت الحكواتي
27 تشرين الأول 2007
– 519 –
هنيئاً لبيروت مسرحُها الجديد “بابل” (مغامرة جواد الأسدي) جاء يكاتف “مسرح المدينة” (مغامرة نضال الأشقر) في قولة إن بيروت المسرح لا تزال تنبض، إن لم يكن مسرحاً كلاسيكياً أو تجريبياً، فعلى الأقل خشبةً لا تستقيل ستارتها، وصالةً لا يتقاعد موظَّف شباك تذاكرها رغم أن “بيت بو سياسة” غير متفاهمين ولا متفقين ويسبِّبون توتيراً في البلد وجموداً وقلقاً وخوفاً وهجرةً وتهجيراً، لأنهم لم يستقرّوا على رأي واحد حول أيّ لبنان يريدون أن يفصِّلوا وفق طلبات “مراجعهم”، وعلى قياس أولادهم وأحفادهم وأزلامهم وقطعان المحاسيب.
هذه هي بيروت الفن الذي لا تطفئه عاصفة: بيروت معرض تشكيلي هنا، وسهرة مسرحية أو غنائية فردية هناك، وأمسية شعرية أو أدبية أو ندوة هنالك. كل هذا لنقول إن بيروت الإبداع لا تتوقف عن نبض، مهما ادلَهَمَّت أجواؤها السياسية.
في هذا السياق يأتي كتاب زميلنا عبيدو باشا، الصحافي والإعلامي والباحث والممثل والأستاذ الجامعي، جميعها في طاقة دينامية واحدة تتَّحد لتزخر بكتابة دائمة ذات هدف نبيل واحد: تسجيل ذاكرة لبيروت الحبيبة، مبدعةً وواحة مبدعين.
كتابه “أقول يا سادة” (عن “دار الآداب”) شهادة لبيروت. بيروت عصر ذهبي كان جميع العرب يقصدونها ليعيشوه، بيروت خشبة لم تكن تنسدل ستارتها على عمل مسرحي حتى ترتفع لعمل آخر. بيروت تراث كتابي وشفوي لا مثيل له ولا بديل ولا حتى منافس.
التراث الشفوي. هذا هو كتاب عبيدو باشا الجديد. كَتَبَه بتوتر عصبي هو ابن شخصية عصبية متوترة تريد أن تلج باب الحقائق التاريخية ولو على حساب راحة المتلقي. عباراته القصيرة المتوهجة تزيد من توتُّر الإيصال. وغياب عناوين الفصول يزيد من اتساع مساحة سرد شاءه، ككلام الحكواتي، أفقاً لا يحدس المتلقّي سلفاً بحدوده.
هذا النص الطويل (بدون فصول ولا فواصل)، السلس الطويل (ككلام الحكواتي المنساب)، جاء يسدّ حاجة لنا في ترطيب ذاكرتنا المسرحية بظاهرةٍ تكاد (كالزجل اللبناني) تنقرض لولا امتشاق متطوعين رساليين (مثل عبيدو باشا) مهمّة تأريخ مرحلة غنية بها ودراسة وهجها. فـ”مسرح الحكواتي” (بتجارب متنوعة ثرية شهدتها خشبات بيروت وصالات متفرقة) هو شكل أول راح يتطوّر مع السياق المسرحي، مرّةً بـ”الحكواتي” مباشرةً (تجربة روجيه عساف نموذجاً، وهو مذكور مراراً في الكتاب رائداً وأُستاذاً مشرفاً ومزاولاً ميدانياً)، ومرة بالمونودراما (نص الممثل الواحد: تجربة رفيق علي أحمد نموذجاً).
فرادة عبيدو باشا في كتابه أنه وثيقة لا بُدّ منها لتأريخ حركة الحكواتي، في أشكالها المتعددة، وفي نماذجها المتنوعة، وفي نصوصها وتجاربها. وفرادته أنه لم يكتب نصاً تحليلياً ولا تحليلاً تنظيرياً ولا دراسة أكاديمية من تلك النصوص المنشّاة الخاضعة لرقابة “الأستاذ المشرف” في القواعد والسنن والضوابط، بل كتب تجربة مهمة جداً في حركتنا المسرحية كان هو أحد أركانها (منذ دراسته الجامعية المسرحية حتى احترافه). ومن هنا دقة التفاصيل في سرده، وتشعُّب هوامش فيه تؤدي الى معلومات تسجيلية ما كان يمكن سواه أن يلتقطها، هو الذي عاشها ووضع نصَّه كأنه يوميات حكواتي أو مذكرات شاهد على التجربة.
ولأن عبيدو باشا عايش المرحلة وكتبها، وضع لخزانة المسرح اللبناني سِفْراً ينحو أفقياً الى السرد، وعمودياً الى حفر ذاكرة لمسرحنا لا تكتمل صورتُها إلاّ بحفظ تراثها على الشكل الذي وصلنا بقلم عبيدو في هذا الكتاب.