السبت 14 نيسان 2007
– 493 –
قبل سنوات، خلال زيارة رئيس المجلس النيابي اللبناني المحامي نبيه بري قداسةَ البابا يوحنا بولس الثاني في الفاتيكان، لم يحمل إليه هدية تقليدية رمزية تذكارية (كما الحال في الزيارات البروتوكولية) بل قدَّم إليه ملفاً دسماً يَحمل وثائق ووقائع وإثباتات دامغة، وأردف وهو يمد إليه يده بالملف: “… ونحن، يا قداسة البابا، عندنا في لبنان فاتيكان الشرق”.
هذا الكلام المباشر لفتَ قداسة البابا (تاريخ العالم منذ فجر المسيحية لم يعرف إلاّ فاتيكاناً واحداً لن يكون له سواه) فواصل الرئيس بري: “نحن في لبنان عندنا قانا يا قداسة البابا، قانا مهد البشارة المسيحية الأوَّل”.
وقبل ثلاث عشرة سنة، لدى عودتي النهائية إلى لبنان من منآي المؤقت في الولايات المتحدة (بحيرة الليمون-فلوريدا) سألني سعيد عقل أن أصحبه إلى قانا (ولم أكُن زرتُها بعد). ولدى وصولي عند مدخل الموقع، لَمح البعضُ سعيد عقل معي في السيارة فاستوقفوني لمصافحته، ثم خرجَت من حسينية قانا سيّدة تدعى زينب، هرعت إلى سعيد عقل تُحيّيه قائلةً: “كم نحن مدينُون لكَ بأنكَ أضأْتَ على قانا بلدتنا. فنحن منذ الطفولة توارثْنا أباً عن جَدٍّ عن آباء عن جدودٍ ضالعين في القدم، أنّ بلدتنا قانا هنا هي قانا الإنجيل، قانا الأعجوبة، قانا المسيح، فلماذا لا تعترف بها المراجع الدينية العليا فيصبح عندنا مَحجٌّ ديني يستقطب العالم”؟ قالتْها السيدة زينب وعادت إلى بيتها الملاصق الحسينية، وظلّ صوتُها يرتجُّ هادراً في عيني سعيد عقل.
مَحجّ ديني! قالتها زينب عفوياً غيرَ مدركةٍ أن لكلامها مرجعية علمية واضحة. فالسياحة الدينية من أبرز الموارد لخزينة الدولة حين تكون لديها معالم دينية، والأرقام التي تبلغنا كل عام عن إحصاءات السيّاح إلى الواحات الدينية (لورد، ميديغورييه، المغطس على نهر الأردن، الفاتيكان، …) تشير إلى كم تنعش السياحة الدينية الاقتصادَ الوطني وتالياً تدعم موارد الدولة.
وعطفاً على عبارة جورج برنارشو الشهيرة (حين زار بعلبك سنة 1927) لدليله البعلبكي مخائيل ألوف: “لو كان عندنا في بريطانيا مثلُ بعلبك عندكم، لألغينا الضرائب لأن الموارد من السياح إلى هذا الصرح الأثري العظيم، كافية لإنعاش موارد الدولة فلا تعود تحتاج إلى ضرائب كي تُغذي ماليّتها”.
وهكذا نحن: بين بعلبك وقانا (عند تأهيلهما وتفعيلهما وتثمينهما) قادرون على سداد ديون الدولة وتغطية عجزها وتحصيل مبالغ تنعش اقتصادنا فيصبح عندنا فائضٌ مالي في خزينتنا فلا يعود لبنان شحّاداً ضعيفاً ذليلاً على أبواب دَول الدول.
وإذا كانت بعلبك ثابتةً في التاريخ ولا جدال فيها، فقانا لا تفتقر أبداً إلى وثائق ومستندات وأسانيد تؤكد كونها فعلاً هيَ هيَ قانا الجليل أرض الأعجوبة الأُولى التي اجترحها يسوع فأصبح المسيح (المسح= تحويل جسم من حالة إلى حالة كما فعل المسيح بمسح الماء خمراً) وأعلن ألوهيّته وافتتح المسيحية “فآمن به تلامذته”(كما كتب يوحنا في إنْجيله).
ولا تنقصنا الإثباتات: من نص القديس جيروم (مؤرخ الكنيسة الذي مشى على قدميه طول المسافة من الناصرة إلى قانا فإذا بها مطابقة ما جاء في الإنجيل عن المسافة التي قطعها المسيح ليأتي إلى عرس قانا مصطحباً أمه مريم)، إلى عشرات محاضرات سعيد عقل وكتاباته، إلى كتابات المؤرخ الثقة يوسف الحوراني، إلى دراسات الأب يوسف يمين، إلى رائعة المستشرق مارتينيانو رونكاليا “على خطى المسيح في فينيقيا لبنان” (وفيه خرائط ووثائق أجنبية وثقى)، إلى سواها الكثير من الدوامغ العلْمية الثابتة.
بلى: إنها قانا. قانا لبنان. قانانا نحن، أبناء لبنان. وليكن أن قلمي المجنّد دوماً لِخدمة لبنان الحضارة، سيبقى نابضاً في خدمة قضية قانا (وبلغني أن فريق عمل يتشكّل لمتابعة هذا الموضوع مع المراجع الدينية والدنيوية ذات الصلة في لبنان والخارج) حتى تتحقَّق الغاية التي ألْمح إليها الرئيس نبيه بري لبابا الفاتيكان: “… ونَحن أيضاً سيكون عندنا في لبنان: فاتيكان الشرق”.