462: … لا زبائنية ولا شخصانية

السبت 5 أيلول 2006
-462-
عن الفرق بين رجُل السياسة ورجُل الدولة يرى السفير فؤاد الترك أنّ “رجل السياسة يتصرّف كأن الدولة بأشخاصها وشعبها مُلْك له، ورجل الدولة يتصرف على أنه هو مُلْك الدولة وشعبها. وفيما رجل السياسة يعمل للانتخابات المقبلة، يعمل رجل الدولة للأجيال المقبلة. وبينما رجل السياسة مشغول في تغذية المذاهب، رجل الدولة مشغول في البحث عن المواهب”.
ولا نظنُّ حاجتنا للتمييز بين رجل الدولة ورجل السياسة تنطبق علينا مثلنا اليوم، ونحن ندعو ونكتب ونصرخ ونتّفق على ضرورة بناء الدولة برجال دولة يعملون للأجيال المقبلة لا برجال سياسة يعملون للانتخابات المقبلة وكلّما “دق الكوز بالجرّة” يتصايَحون “إعملوا انتخابات لنرى من ومتى وكيف وكم”.
غريبة (ومقرفة) هذه الموجة من سياسيين عندنا لا يرون من الدولة اللبنانية إلا “ساحة” لهم، لمحاسيبهم، لأزلامهم، يُفلتونهم هنا وهناك في وسائل الصحافة والإعلام، يصرّحون، يناقشون، يستضافون في هذه البدعة البشعة التي اسمها الـ”توك شو” السياسي، كي يهاجموا الدولة مرة، ومرة يتبرعون بأن لو كانوا في الحكم لكانوا أتوا “بما لم تستطعه الأوائلُ”، ولا ينسون في كل مرة أن يهاجموا وينتقدوا ويثيروا غرائز الانتقام عند مناصريهم وأزلامهم ومحاسيبهم وأغنامهم الذين يديرونهم بالـ”ريموت كونترول” إلى مظاهرة من هنا أو يافطة من هناك أو شحن نفوس وغرائز من هنالك.
في جميع دول العالم موالاة ومعارضة. والمعارضة لا تكون للشتم وعرض المثالب، بل لتصويب مسار معين كي يستقيم مسار الدولة بالموالاة والمعارضة، لا كي تكون المعارضة ساحة للتصايُح على مبدأ “قم لأقعد مطرحك”.
يلومني قراء وأصدقاء ومستمعون ومشاهدون على تكراري عبارة “بيت بو سياسة” في كتاباتي الصحافية والإذاعية، مبررين لومهم بأن “ما لكَ ولهم. تجاهلْهم ولا تشعر بهم”. وهو كلام صادق لكنه طوباوي. كيف أتجاهلهم وهم في خلقتنا طوال النهار والليل على الشاشات وفي الإذاعات وفي الجرايد والمجلات، ينفثون علينا تنظيراتهم وآراءهم كأنهم يمسكون بالقرار بينما هم أحجار داما زبائنيون عند من يرفعون إليهم الفواتير لتسديد صفقات أو تمرير مواقف تمهيدية لِما هو أدهى.
في مقاله “أقفلنا الساحة” (“قضايا النهار”- الثلثاء 22 آب 2006) كتب المفكر اللبناني أنطوان مسرّة: “لن نكون بعد اليوم بلداً ساحة… سائباً لحروب من أجل الآخرين يتبارزون على أرضه من خلال قوى لبنانية وغير لبنانية… ولن نكون بلداً رصيفاً…ولن ننجرف إلى حوار وطني كأننا وطن قيد التأسيس الدائم… فلا مستقبل إذا استمر لبنان ساحة لصراعات الآخرين”.
كم أتمنى على صديقي أنطوان مسرّة لو يكتب مقالاً آخر يدين فيه الزبائنيين المحليين مثلما دان أعلاه الآخرين الذين جعلوا أرضنا ملعباً يتبارز عليه فريقان، ينتصر فيهما من ينتصر، يوقع بالآخر ما يوقع من خسائر وأضرار ثم ينسحب الفريقان فندفع نحن ثمن الأضرار من أرضنا وشعبنا واقتصادنا ومستقبل أولادنا، ويبقى وطننا ساحةً أو ملعباً عرضة للتدمير والأضرار.
اليوم، ونحن خارجون من حرب علينا، ونحصي شهداءنا وأضرارنا والخسائر، مصيبتنا الكبرى أنْ ما زال بيننا زبائنيون يسددون فواتير سياسية للخارج، وشخصانيون نيرونيون يشعلون بلادنا لإشعال سيجارة وصولهم السياسي، عوض أن يلتف الجميع، من هُم داخل الحكم ومن هُم خارج الحكم، ليتكاتفوا على بناء دولة قوية متينة منيعة لا زبائنيات للخارج فيها، ولا شخصانيات فردية، دولة تظلّل شعبها بالأمان، وإلاّ فسيُصبحون جميعاً سلطة حاكمة على خرائب وهياكل عظمية وأشجار محروقة.
عن سعيد عقل قوله: “الذكي يوصل نفسه، والعبقري يوصل شعبه”. فيا حبذا لو يفهم “بيت بو سياسة” عندنا أن ذكاءهم لن يفيدهم ولن يفيدنا لأننا لا نريد سياسيين أذكياء بل رجال دولة عباقرة يستعيدون ثقة شبابنا في الخارج كي يعودوا إلى دولة لم تعد مزرعة للشخصانيين، وإلى وطن لم يعُد كانتونات للزبائنيين.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*