السبت 25 شباط 2006
الجنادرية- الرياض -441-
بعد زيارتي قريةَ الجنادرية (نحو 50 كلم شمالي الرياض) خرجتُ بانطباع راسخ أن الشعر العربي القديم (منذ الجاهلية الأُولى حتى ردح كبير من العصر الأموي) لم تعد جائزةً مقاربتُهُ قراءةً وحسب ولا شرحاً شفوياً وحسب، بل يجب ملحاحاً إدخالُه العصر بمقاربته مشهدياً، في الإفادة من وسائل العصر التكنولوجية (الكاميرا الجامدة، الكاميرا السينمائية، التسجيل الصوتي، فيديو، سي.دي.، دي.في.دي.،…) لتقريبه من المتلقي بصرياً ووثائقياً فلا يبقى كأنه من كوكب آخر ولو انه لكثيرين من التلامذة الثانويين والطلاب الجامعيين يأتيهم من عصر آخَر كثيراً ما يتأففون من إدراجه في عصرهم اليوم وتدريسه ومقاربته.
لماذا “الجنادرية” بالذات؟ لأن فيها تتجمّع مناطق المملكة العربية السعودية الثلاث عشرة كاملةً، بأشخاصها وتقاليدها وعاداتها وموادها وأدواتها التراثية والتاريخية واحتفالاتها وأسواقها وسُفُنها وملاحيها وقهوتها وفنونها الشعبية وغنائها وحدائها ورقصاتها وحِرَفياتها وأزيائها وبيوتها القديمة وتوابعها (خيام، نوافذ، مشربيات، شرفات، …) مستعادة كما كانت تماماً بهندستها الأُولى، فيأنس الزائر (بما لن يكفيه نهار ولا اثنان) لزيارة مناطق المملكة وأقاليمها الصحراوية (نجد: الرياض، الربع الخالي، والمنطقة الشرقية) والزراعية (الأحساء، القصيم، عسير، والمنطقة الجنوبية) والساحلية (جدّة، الدمام، ينبع، جبيل، والمنطقة الغربية)، ويتعرف الى الأقاليم (سدير، القصيم، حائل، العارض،…) ومناطق نجد (الرياض، بريدة، عنيزة، شقراء، المجمعة،…) ومناطق الحجاز (مكة المكرّمة، يثرب المدينة المنوّرة، الطائف، جدّة،…) وجميعها واردة بأماكنها في الشعر العربي ذي الجاهليتين وصدر الإسلام والعصر الأموي، ومعظم شعرائه عاشوا وقالوا شعرهم في تلك المناطق بالضبط.
هذه القرية التراثية تقام مرة واحدة فقط كل سنة، منذ 21 سنة، على مساحة كلم مربع واحد، خلال مهرجان الجنادرية، بتنظيم من الحرس الوطني ورعاية مباشرة من خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود (منذ كان أميراً وولي العهد). وفي هذه “القرية” المعاد تركيبها يمكن الزائر أن يعاين (ويشتري طبعاً) الأدوات التراثية القديمة من خشبية ومعدنية وقماشية كما يصنِّعها تصنيعاً دقيقاً وأميناً للأصل بنَون توارثوا تصنيعها عن آبائهم وآباؤهم عن أجدادهم.
ويأنس الزائر الى الترحيب العربي الأصيل من أولئك الناس الطيبين العفويين: “يا هلا… يا هلا… زارتنا البركة” بتلك الضيافة العربية الشهيرة في ساحاتهم أو بيوت الشَعر (بفتح الشين طبعاً) وقد يهزحون: “أشرق النور وبانا… مرحباً بمن أتانا… أيها الزائر أهلاً…لك في القلب مكانة”.
أعود الى البدء: لا يمكن بعد اليوم فهم الشعر العربي القديم، بكل عفويته وبدائيته وغناه وعبقريته السليقية، من دون مقاربته بوسائل العصر المرئية والمسموعة (“وسائل الإيضاح” في لغة التربية الحديثة). وهذا طبيعيٌّ لأيّ تراثٍ أن يعود الى مصادره ومنابعه ومغانيه وموائله لفهم أُصوله وجذوره وجذوعه وفروعه، فهي حبل السرة الذي به يرتبط كل مولود جديد يأتي اليوم من سلالة تتسلسل بهذا الحبل إياه.
مهرجان الجنادرية أهميته في قريته التراثية. والمعنيون في كل بلد عربي يقرأ تراثه أباً لماضيه فليبادروا الى”تلفزة” هذا التراث القديم إنقاذاً مشهدياً له قبل انقراضه مع الزمن بغياب أشخاصه. فلنستفد من تكنولوجيا اليوم لحفظ تراث الأمس قبل أن يصبح الغد ماضياً مسبقاً لا ينفع معه التذكار.