الاثنين 23 كانون الثاني 2006
-439-
يبدو أن الجهر المتنامي مؤخراً بـ”لبنان اللبناني” (بالمعنى الانتمائي الوطني لا بالمعنى التقوقعي الانعزالي التعصبي) بدأ يأخذ اتجاهاً واعياً وتَوعَوياً معاً ظهر بعضه (ولو على حجم فردي ضئيل) بعد صدور “أزرار” الأسبوع الماضي “أخيراً: لبنان أولاً وأخيراً”.
كأنما ينقشع الضباب (كدتُ أقول: الوهم) عن عقولٍ أو عيونٍ أو عَمَهٍ لدى من كانوا يحكمون مسبقاً بـ”الشوفينية العمياء” على من ينادي بـ”لبنان اللبناني” ظناً منهم أنّ في هذه القناعة انغلاقاً على لبنان دون الانفتاح على الآخرين.
بعد هذا “الانقشاع” يتجلّى ثالوث آخَر يدعم المؤمنين بهذه القناعة، ولا يجرح شعور أحد من ذوي الأحكام المسبقة.
إنه ثالوث: الوفاء والولاء والانتماء. وليس في هذا الثالوث، أيضاً وأيضاً، إلاّ احترامُ الذات واحترامُ السوى معاً.
فالوفاء للوطن والإرث والأرض: ضلع أوّل. والولاء للبنان أولاً وأخيراً وبين بين: ضلع ثانٍ يشدِّد الأول. والانتماء الى لبنان أولاً وقبل أيّ وطن آخَر: هو الضلع الثالث الذي يكمل المثلَّث ويُغلقه على متانة محكمة لا يخترقها خلل أو ضلال.
ومتى احترمنا ذواتنا بالوفاء للبنان والولاء للبنان والانتماء للبنان أولاً، نكون احترمنا الآخرين بل فرضنا على الآخرين احترامهم إيانا. فمن كان ولاؤُه لغير وطنه قبل وطنه، لن يحترمه الوطن الآخر ولن يضمّه إليه أصلاً بل سيظل يعتبره غريباً عنه فيما هو لن يعود منتمياً الى وطنه الأول، فيصبح في صحراء اللامكان، بلا انتماء متجذِّر، ولا ولاء لأحد، وتالياً بلا وفاء، وما أحقر من يكون، في طبعه وخلقه وانتماءاته وولاءاته الوطنية، بلا وفاء.
الفرنسي فرنسيٌّ أولاً ولو هو ينتمي جغرافياً واقتصادياً (ومؤخراً: مالياً نقدياً) الى أوروبا. وهو يرفض أن يعتبر الكندي في كيبيك فرنسياً ولو انه (الكندي) ينطق بالفرنسية. يعني أنّ الفرنسي لا يقول إنه أوروبي أوّلاً ثم فرنسي، ولا يجد رابطاً “قومياً” له مع ابن السنغال الأفريقي الذي ينطق، مثله، بالفرنسية. فالفرنسي إذاً فرنسي الوفاء لإرثه وأرضه، فرنسي الولاء لوطنه أولاً وأخيراً وبين بين، فرنسي الانتماء الى فرنساهُ أولاً قبل أي وطن آخَر، لا يقدِّم على فرنساهُ أيَّ وطن آخَر مهما كان بينه وبين ذاك الوطن رابط دين أو لغة أو عملة أو اقتصاد أو أُدلوجاتُ القطريات والقوميات والأُمَميّات والشرقيّات والغربيّات.
الفرنسي هنا نموذجٌ من عشرات تُمكن العودة إليها للتأكيد على أنّ اللبناني لا ينعزل ولا ينفصل ولا ينفصم ولا يتجزّر (بالزاي لا بالذال، أي يتقوقع في جزيرة) إذا هو جاهر بلبنان أولاً ولبنان أخيراً ولبنان بين بين، ولو كانت له علاقات وروابط وامتدادات لغوية أو دينية أو اقتصادية أو جغرافية بأيّ وطن آخَر أو أية إيديولوجيا أُخرى. وأيُّ مواطنٍ واعٍ لا يرضى بمقولة إنه يشكّل شعباً واحداً أو وطناً واحداً أو أمّةً واحدةً مع أي وطن آخَر يقدّمه على وطنه الأوّل وأرضه الأُم.
شعب واحد؟ شو يعني؟ أنّ الحدود الجغرافية لا تفصل ولا تجعل الشعب الواحد شعبين؟ ما الفاصل بين بلجيكا وفرنسا؟ أو بين أسبانيا وفرنسا؟ أو بين إيطاليا وفرنسا؟ حدود طبيعية أو اصطلاحية (جغرافيا الكوكب كلُّها اصطلاحية). ومع ذلك لا يقبل الفرنسي أن يقول إنه شعب واحد مع بلجيكا أو إسبانيا أو إيطاليا، ويبني علاقات جوار احترامية مع بلجيكا وإسبانيا وإيطاليا.
فلنفهمْ: لن يحترمنا الآخرون إن لم نحترم نحن هويتنا، وكفانا خلْعُ هويتنا وارتداء هويات الآخرين. سباقنا الى هويات الآخرين يُبقينا على أعتاب الآخرين وحين نعود الى بابنا سنجده مغلقاً في وجهنا. فلنتمسَّكْ بثالوثنا اللبناني المقدس: الوفاء والولاء والانتماء الى “لبنان اللبناني” كي نستحقَّ رضى لبنان، وبه وحده نكسب احترام العالم.