الاثنين 31 تشرين الأول 2005
-431-
مكتوم المهابة على ضآلة اتساع. لكأنّما أرجاؤه ضنينةٌ بِمخزون الذكريات إلاّ على الخُشَّع في حنايا المهابة.
ندخله. على جبينه شاهد: “في هذا المربّع وُلد كرم ملحم كرم نهار 5 آذار 1903”. وتحتها عبارة منه عن مذود المسيح: “في المذود الأجرد نشأت الحرية، ومنه انطلق الإخاء”. نخشع للقول ونُجيل النظر: هذه لوحة فخرالدين المعني الثاني الكبير الذي كان يرى فيه كرم “الدرزي الذي وحّد جبل لبنان على القرار اللبناني في وجه قوتين تنازعتاه: توسكانا والآستانة”. وعن كرم أن حدود لبنان أول أيلول 1920 ليست سوى نسخة منقحة عن حدود جمهورية فخر الدين.
في هذا المربَّع نشأ الصبي وحيد أمه سوسان الأسمر حريصة على سكون الحارة فتسأل أترابه ابتعادهم: “كرم بدو يدرس”. وكانت باكراً فقدت زوجها ملحم (الضابط في الجيش العثماني) ابن شاهين بو كرم “حامي النصارى” أيام أحداث 1860.
ومن هذا المربّع تنقَّل كرم بين معهد الإخوة المريميين في جونيه ومعهد الآباء الأنطونيين في بعبدا، وأنّى تنقَّل كان يدرس تاريخ لبنان في قراءاته الشخصية وفيها عرف (وأحَبّ كثيراً) شخصية فخر الدين.
وفي هذا المربّع كان يحلو له الجلوس صيفاً، والإخلاد الى أصدقائه وأدباء الشوف وبينهم أستاذه نعوم افرام البستاني الذي في جريدته “دير القمر” تدرّب كرم تزامناً مع مساعدته خاله فضل الله الأسمر في محل الصياغة، حتى إذا بلغت دير القمر يوماً رسالة من بشارة الخوري (الأخطل الصغير) طالباً إلى كرم الإسهام في تحرير “البرق” أسلم لأحدهم مفتاح محل الصياغة وغادر دير القمر الى بيروت تسابقه لهفته الى الكتابة والتحرير والصحافة، الثالوث الذي سيجعل منه روائي العصر بلا منازع.
وفي هذا المربّع كان يهنأ كرم الى الكتابة. “هنا” (يومئ عصام باعتزاز ونوستالجيا) “هنا كان يجلس. قبالة هذا الشباك. يقرأ الصحف الأجنبية ويكتب افتتاحيات “العاصفة” أو قصصاً لـ”ألف ليلة وليلة” ويحملها معه صباح الاثنين الى بيروت يدفعها الى المطبعة. هنا كان يجلس. يتأمل هذه الكناية العتيقة أمامه، ويغتبط. وما أكثر ما ردَّد لنا: “أليس هذا المربع أحلى من قصر يلدز”؟ ودائماً كنا (شقيقي ملحم وشقيقتاي سوزان ومها) نجيبه بـ”نعم” شاعرين معه بِما في قلبه من غبطة الركون الى الركن الذي ولد فيه ونشأ فيه ويحمل منه ريحة الذكريات”.
في هذا المربّع (“المربَّع فعلاً: 7×7 م.= 49 متراً مربعاً) نصغي ونجيل النظر: المقعد الواطئ، النافذة ذات المندلون، صوَر المربَّع كما كان أيام كان، الشقوق في حيطانه بسبب زلزال 1956، قرميده الذي عاد به يَتَطَربَش كما على أيام كرم، لوحات مستطيلة لا تحمل رسوماً ولا لوحاتٍ بل أقوالاً من كرم (عادةٌ ممتازة لو نتبنَّاها -ولِمَ لا؟- الى جانب اللوحات الزيتية في بيوتنا) وكلُّ ما فيه يذكِّر بكرم وأيام كرم وذكريات كرم، وليس أغلى، على أديب غاب، من استعادة مطارحه في حيثما كان يهنأ.
في هذا المربَّع نَجول مراوحين ولا تروح منا في تَجوالنا نكهة الاستذكار: استذكار كبير رأى فيه “أحلى من قصر يلدز” لأنه كان يلد فيه كلمات باتت قصوراً في صرح الأدب يراها الناس ولا يرون أساسها المركون في الأرض مربّعاً في حجم قبلة.
ولا نغادر هذا المربع قبل أن نتّعظ: طوبى لكرم ملحم كرم في بنيه، وأطال الله عمر غيابه الذي جعله عصام وملحم حضوراً تركه كرم ألف ليلة وليلة، فضاعفه عصام وملحم الى آلاف الليالي بحفاظهما على تركة لن تقضمها الليالي مهما تعدَّدت آلافها.