430: هنيئاً لهم أبنائهم

السبت 22 تشرين الأول 2005
-430-
من نُعمَيَات الأديب أن يهتمَّ أبناؤه بعدَه بنتاجه، جمعاً أو نشراً أو على الأقلّ حفظاً أميناً. وإلاّ، عكس ذلك، يغادر هذه الدنيا وفي عينيه نظرة أخيرة ذاتُ حسرةٍ على كتبه ومَخطوطاته مدركاً أنها ذاهبة الى الاندثار أو الضياع أو، في أفضل حال، الى النسيان.
من هنا: هنيئاً لِمبدعين يهتمّ بعدهم أولادهم بآثارهم، ولنا نماذج منهم مضيئة: هاني فرّوخ حافظ أعمال والده مصطفى، نظير عبود حافظ تراث والده مارون، أمين ألبرت الريحاني حافظ متحف عمّه أمين، عصام وملحم كرم حافظا إرث والدهما كرم، وآخرون يحفظون، بمستوى أو بآخر، إرث آبائهم.
لذا كان عميقاً تأَثُّري بالتقائي مؤخراً اثنين من الأبناء حافظَين تراثَ والديهما: مكرم ميشال زكور وداود شارل قرم.
فمكرم يحفظ مجموعة “المعرض” كاملةً (ورقاً وأُسطوانات مدمجة) وساهم في نشر مستلاَّتٍ من “المعرض” (صدرت عن “دار النهار للنشر” في جزءين موسوعيَّين)، وأسهم في “معرض ميشال زكور” لدى معهد العالم العربي في باريس قبل سنوات، وكان وراء إصدار كتاب “ميشال زكور” لفاضل سعيد عقل ورياض حنين، إضافةً الى اهتمامه بكل مخطوطة وصورة ووثيقة ورسالة من (أو الى) أبيه الكبير ميشال زكور (صحافياً ونائباً ووزيراً) ويحرص عليها ويرتّبها ويبوّبها ويفهرسُها وينظّمها ويحفظها استعداداً لإصدارها في الشكل الذي يناسب مادتها ومضمونها. وهو (مع أنه كان طفلاً يوم توفي والده) يروي عنه ومنه وحوله كأنه عايشه وعاصره، كما يروي عن والدته (الست روز) ما يجعل السامع يشعر أن ميشال زكور سيطرق الباب ويدخل.
وداود القرم، المهتم (مع شقيقه رامي=أحيرام) بترميم بيت والده شاعرنا الفذ شارل قرم (وكان حتى 1957 أعلى مبنى في بيروت) ومعه الحديقة التي كانت ذات فترة مشغلاً لكبير نحاتينا يوسف الحويك، وما زالت فيها أربعة تماثيل (لجبران وداود القرم والبطريرك الحويك وشارل قرم) محفوظة في الحديقة بإزميل الحويّك، حقَّق ما هو أهمُّ وأعظم: نشر مؤلفات شارل قرم الشعرية في 10 أجزاء كاملة أنيقة (عن “منشورات المجلة الفينيقية”) وجمع أربعة أعداد “المجلة الفينيقية” في مجلّد واحد، تصويراً كاملاً كما هي بِما فيها من ثروات نصوص شعرية ونثرية وتاريخية عن تلك الحقبة المباركة من تاريخ لبنان الحديث بأقلام كبارنا في لغة راسين، إضافة الى مساهمته المباشرة في نشر كتاب “شارل قرم” الذي وضعه الباحث الأديب الدكتور جميل جبر.
وهكذا، بفضل مكرم زكور مهتماً بوالده، وصلت إلينا جريدة “المعرض” بكنوزها التي كانت بها منبر كبار أدباء الثلث الأول من القرن العشرين وشعرائه، وبفضل داود القرم (وشقيقه أحيرام) وصلتْنا روائع شارل قرم الذي لا يعرف منه الكثيرون إلاّ رائعته “الجبل الملهم” فيما غزارته الشعرية مذهلةٌ بكتابات لولا وَلَدَيه لبقيت حيث كانت في أدراج صاحبها أو صائرة للتلف.
ولولا حظوة جبران بماري هاسكل التي حفظت لوحاته ورسائلها ورسائله، وما كان للجنة جبران من حفظها وحفظ مخطوطاته، ولولا حظوة الياس أبو شبكة بنهاد نوفل (رئيس بلدية زوق مكايل الذي حافظ على بيت الشاعر ويعمل على تحويله متحفاً يحوي أغراض أبو شبكة ومخطوطاته وكتباً له ومنه وعنه) لكان جبران وأبو شبكة اليوم في مهب الغياب، كحال كثيرين من أدباء عندنا وشعراء ومبدعين لا أبناء لهم أو ان أبناءهم لم يهتموا بحفظ آثار آبائهم فأهملوها حتى التلف أو النسيان.
من نُعمَيَات الأديب أن يهتمَّ أبناؤه بعدَه بنتاجه، جمعاً أو نشراً أو حفظاً. فطوبى لكل مبدع يهتم أبناؤه بتراثه. ويا تعس مَن يغمض عن هذه الدنيا عينيه، وعيناه دامعتان على تراثٍ له لن يهتمَّ به بعده أحد.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*