السبت 16 تَموز 2005
-416-
مبروك للبنانَ الثقافة هذا النصر الجديد والحدَث السعيد (بعدما لبنان السياسة يراوح مكانه في مستنقع السياسة ودلع “بيت بو سياسة” بين ردَّة فعل على فعل، وبين مُوالٍ ومعارض، وبين مَن يُثير العجَب ومَن لا يُعجبه العجَب) وهنيئاً لنا جميعاً باستحقاق لبنان الحضارة هذا المجد الجديد: دخول لبنان الى “سجلّ ذاكرة العالم” في برنامج منظّمة الأونسكو 2005.
هكذا يتبيّن أيضاً وأيضاً أنّ لبنان الثقافة والإبداع أرقى وأنقى وأبقى بكثير من لبنان السياسات الصغيرة وسياسيين على قياسها، وأنّ لبنان الثقافة هو الذي يعيدنا الى خارطة العالَم واحةَ عطاءٍ حضاريةً لا تنفكّ تُضيف جديداً دائِماً الى حضارة العالَم.
سنة 1997 أطلقت منظمة الأونسكو العالمية “برنامج ذاكرة العالَم” من أجل “جمْع الْمجموعات الوثائقية الحضارية وحفْظها وصيانتها وتعريف الْجمهور إليها للانتفاع بها وإضافتها الى تاريخ الحضارة”. وطلبت المنظمة من كل لجنة أونسكو وطنية تشكيل لجنة محلية تتولى جمع الوثائق المطلوبة وفق المعايير الأونسكُويّة. وفي30/8/2003 أطلق المدير العام كويشيرو ماتسورا (في نهاية دورة اللجنة الاستشارية الدولية لبرنامج “ذاكرة العالم” في غدانسك/بولونيا) نداءً الى دورة جديدة (تنتهي في حزيران 2005) طالباً جديدَ الدول من التراث الرقمي. كان لا بُد للبنان أن يلبّي، وهو مَن هو في الحضارة. وبادرَت الأمينة العامة للّجنة الوطنية اللبنانية للأونسكو السيّدة سلوى السنيورة بعاصيري فشكَّلت قبل سنتين “لَجنة وطنية لبنانية لبرنامج ذاكرة العالَم” من خبراءَ واختصاصيين وجامعيين في الْحقول ذات الصلة، عقدوا اجتماعات دورية قدَّم خلالها الأعضاء ما لديهم من وثائقَ أو ما يعرفون عن وثائقَ يُمكن أن تكون عالَميةً فتدخل في “برنامج ذاكرة العالَم”. وبين تلك الْمطابقةِ الْمعاييرَ الْمطلوبة لموروثات التراث الرقمي أرسلت الأمينة العامة بعاصيري دراستين وضعهما (بالفرنسية وضمن الْمواصفات) الباحث اللبناني الأكاديمي الدكتور ابرهيم كوكباني: الأولى عن “منقوشات نهر الكلب” والأُخرى عن “تطوُّر الأبْجدية الفينيقية”.
وبالفعل قبل أيام صدرت نتائج الدورة وتلقّت الأمينة العامة للّجنة الوطنية اللبنانية للأونسكو قرار المنظمة فوز الدراستين اللبنانيتين بالدخول الى “سجلّ ذاكرة العالَم” كـ”وثيقتين عالَميّتَين جديرتَين بالْحفظ عالَمياً أثرَين تاريْخيَّين على مستوى ذاكرة العالَم” ضمن جدول الآثار العالَمية الذي توزّعه الأونسكو على جميع البلدان والدوَل (أصبحت 91 وثيقة من 45 بلداً في العالم).
فشُكراً لعالِمِنا اللبناني والباحث الطُّلَعَة الدكتور ابرهيم كوكباني على هذا الفوز العالمي الكبير المشرِّف للبنان، بفضل جهوده الأكاديمية الرصينة، هو الذي سبق واكتشف لنا “تونيب” الفرعونية سنة 1967 في هياكل بعلبك،وأجرى هناك حفرياتٍ سبقَت بناء الهياكل الرومانية، فجاء بجديدٍ للعلم والتاريخ والحضارة.
وشكراً لسلوى السنيورة بعاصيري على جهودها الْجِدّيّة الرصينة في اللجنة الوطنية اللبنانية للأونسكو، فبفضلها قطف لبنان أكثر من جائزة عالمية لأعلام لبنانيين (ناديا نويهض: جائزة سيمون بوليفر، زوق مكايل ورأس المتن: مدينة السلام في العالم العربي)، وبفضل جهودها تَمّ اليوم للمرة الأُولى إدراجُ لبنان بين الدول العالمية على “السجل الدولي للتراث الرقمي”.
هذا هو لبنان الحقيقي: لبنان الثقافة لا لبنان السياسة، يَشُعُّ من جديدٍ على العالَم، واحةً ضئيلةَ الْجغرافيا شاسعةَ التاريخ، فيتأَكَّد ما قاله العالِم الفرنسي غبريال هانوتو: “إن لم يكن لبنان أعلى جبل في الْجغرافيا، فهو بلا جدالٍ أعلى قمة في التاريخ”.