408: “دائمقراطية” لبنان وديمقراطية بريطانيا

السبت 21 أيار 2005
-408-
آخر أخبار الانتخابات في بريطانيا، أنّ حزب العمّال فاز على حزب المحافظين. وهذا خبر عاديٌّ أنْ يفوزَ حِزبٌ على حِزب. لكنّ تتمة الخبر غير عادية: إعلان المستر هاوَرد استقالته من زعامة حزب المحافظين لأنَّ حزبه “خسر في الانتخابات”.
الجزءُ الآخَرُ من الخبر أنّ حزب العمّال، بفوزه للمرة الثالثة على التوالي في الانتخابات، يحتفظ زعيمه طوني بلير برئاسة الوزارة البريطانية. وهذا أيضاً خبر عاديٌّ أن يفوز حزب للمرة الثالثة في الانتخابات. لكنّ تتمة الخبر غيرُ عادية: مبادرة طوني بلير لا إلى شُكر ناخبيه (مرةً ثالثة زعيمَ حزب العمّال ورئيسَ الوزارة) بل إلى إعلانِه عزمَه “على التنحّي عن رئاسة الوزارة إفساحاً لرئيس وزراء آخَرَ أكثر نشاطاً يُحرّك دينامية الدورة السياسية في المملكة المتّحدة”.
ماذا ؟!؟ “أكثر نشاطاً” وطوني بلير في مطلع الخمسينات من عمره؟ و”يتنحّى” عن رئاسة الوزارة لا عزوفاً ولا حَرَداً بل إفساحاً لدم جديد على رأس الوزارة؟ ومستر هاورد يستقيل من زعامة الحزب لأنه “خسر في الانتخابات”؟
هي ذي الديمقراطية الحقيقية نتعلّمها من البريطانيين. فأين ديمقراطيتهم وأين “دائمقراطيّتنا” حين يَجلس نائبٌ عندنا على مقعده في البرلُمان دورةً بعد دورةٍ بعد دورة، فيبلغ التسعين أو أكثر (من غير شرّ، أطال الله في عمره)، وهو ما شاء الله يظل نائباً دورةً بعد دورةٍ بعد دورة، فإذا مات يرثه ابنه في المقعد، أو أحدٌ من عائلته، حتى تتمدَّد هذه المزرعة العائلية على مساحة الوطن بأولياء العشيرة وأبنائهم وأحفادهم وأنسبائهم، فإذا لبنان مجموع زعماء عائلات لا زعماء أحزاب، ما واحد منهم “يتنحّى” ولا هُم يُشيحون، ولا ينفكّون يعِظُون الناس بالديمقراطية، ويبشّرون الشعب بالتغيير، وأكثر: أمام كاميرات التلفزيون يُحاضرون في لبنان الجديد ومستقبل الوطن، فينطبق عليهم قول سعيد تقي الدين: “أفصح ما تكونُ القحباء، حين تُحاضر في العفاف”.
فيا أولياء العشائر والقبائل والعائلات: خفِّفوا من التنظير في الديمقراطية وأنتم تمارسون “الدائمقراطية”، وتعلّموا الديمقراطية الحقيقية من بريطانيا قبل أن تتشدّقوا وتَتَغَرغَروا بكلام هو ثلجٌ كاذبٌ سرعان ما تفضحه حرارة الشمس التي لا تعرف الكذِب. فالذي عندنا، وبسببكم: “دائمقراطية” البقاء الدائم المتواصل المتوارث المتسلسل في الحكم، وفي بريطانيا ديمقراطية في تداوُل الحكم. عندنا نحن: العشائرية العائلية الوراثية الإقطاعية المزارعية الزبائنية الخوشبوشية المعلَيشية، وفي بريطانيا حُكْم المواهب لا المذاهب، وحُكْم الأكفياء لا الأوصياء، وتجديد الدم في مقاعد الحُكم والنيابة والوزارة، والهايدباركات الحرة البعيدة عن ضغوط “بيت بو سياسة” وسلطوية الأزلام والمحاسيب ومعادلات: “كلب المير مير”، و”كل مين أخذ أمي صار عمي”، و”اليد التي لا تستطيع أن تكسرها، تبوسها وتدعو عليها بالكسر”، و”لم يكن بالإمكان أفضل مما كان”، و”قديم تعرفه خير من جديد تتعرف عليه”.
في بريطانيا المملكة المتحدة عراقةُ التجرُّد، وعندنا مملكة غير متحدة من عائلات تورّث التخلُّف السياسي جيلاً بعد جيلٍ لأبناء يتحكّمون برقاب شعبٍ يسوقونه كأنه قطيع في مزارعهم. لكنَّ هذا لن يدوم طويلاً، فشعبنا الذي يظنّونه قطيعاً سوف ينتفض اليوم أو في يوم قريب، ولن يعود قطيعاً بل سيقطع التقاطع المتقاطع بتقاطعات عائلات سياسية تقليدية مفروضة فرضاً، وسيقلب الطاولة على أسياد الطاولة ليولد منه جيل جديدٌ كالذي صنع مَجد 14 آذار: جيلٌ يقلب “الدائموقراطية” اللبنانية إلى ديموقراطية حقيقية لا يعتزّ بها لبنان وحده بل تعتزّ بها حتى ديمقراطية بريطانيا.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*