الجمعة 6 أيار 2005
-406-
لم أقرأ سطراً لمحمد علي شمس الدين (شِعراً أو نثراً) إلاّ طالعاً من الجذور، من الأُصول، من قلب التراث الذي هو الخمير وبدونه لا عجين ولا خبز. وكل قمح خارجَه طرْحٌ مسخٌ هجينٌ غيرُ قابل للحياة.
جديدُهُ، محمد علي شمس الدين، “شيرازيات” (عن منشورات اتحاد الكتّاب اللبنانيين) وهو تعريبُهُ شعراً 75 قصيدة غَزَليّة من “شاعر الحكمة” حافظ الشيرازي. ويصرّ في مقدمته أنه لم “يترجم” القصائد (حرفياً) بل “عَرَّبها” (بالتصرُّف في التفاصيل والحفاظ على جوهر المعنى “في إناء العربية ببلاغتها وأصولها وأوزانها وتطوُّرها الحديث”). وعلامتُهُ، في تعريبه، أنه نقَل الشيرازي إلى العربية في قصائد نقيّة جليّة أنيقة مسبوكة في حبكة ومتانة لا يؤتاهُما إلاّ الشعراء المتمكِّنون ومحمد علي شمس الدين في طليعتهم.
قاعدةٌ أخرى للشعر، هذا الكتاب، بكل ما فيها من أشكال الشعر وأُصوله العروضية والإيقاعية. فالعروض شرط الشعر ومنه الإيقاع الموزون المرتكز إلى قواعد ثابتة، لا إلى ما يسمى، ضعفاً واستسهالاً وتضليلاً، “الإيقاع الداخلي”. فالسمفونيا لا تقدِّم لك الإيقاع النغمي “حزُّورة” داخلية وتتركك لك أنت البحث عن الميلوديا، بل هي التي تفرض عليك إيقاعها الواضح.
“شيرازيات” جعله محمد علي شمس الدين قسمين: أول عموديّ (وزن، بحر، قافية، رويّ، صدر وعجُز،…) في 48 قصيدة، والآخَر (27 قصيدة) موزون بتفعيلات من دون تقفية، كأنما تعمّد به (ومعه حق) تأكيد أن الوزن ضروري للشعر وأن القافية (ومعه حق كذلك) ليست ضرورية. من هنا اعتمد الوزن في القسمين، مُثْبتاً أنّ الوزن شرطُ الشعر. خارجه: نثر، ولو كان جمالياً فنياً عالياً هذا النثر (فالنثر على مستويات). هوية الشعر: الوزن. وبالوزن لا أعني بالضرورة الشكل (عمودياً ذا صدر وعجُز). ليكن الشكل كما يشاؤه الشاعر (منفلتاً، منسرحاً، عمودياً، ذا تفعيلة،…). المهم أن يكون فيه الوزن الطالع من أصول العروض وأُسس الإيقاع. هوية النثر الانتثار ضمن ضوابط الأناقة والجمال، تقريرياً كان أو إبداعياً. والشعر غيرُ النظم، مثلما السردُ التقريري غيرُ النثر الجمالي (وهذا الأخير، كالشعر، صعبٌ متعدد الأشكال، لا يبلُغُهُ إلا كبارُ الكتّاب المتمكّنين).
في “شيرازيات” محمد علي شمس الدين لم أتنسّم نظماً. غار الوزن خلف اللقطة الإبداعية الشعرية الخلاَّقة، كما تغور النوطات الموسيقية خلف الميلوديا الجميلة. هكذا نسجَ شمس الدين أبياته في براعة شعرية عالية وسبْك وسكب متينَين، فجلا أبياته ناصعةً كلؤلؤة مصقولة، ومحمد (في جميع كتاباته الشعرية والنثرية) صوّاغُ شعرٍ بارعٌ على موهبةٍ عميقة الجذور طالعة من التراث الشعري العربي الذي رفد الشاعر بمجموعة قيم شكلية ومضمونية تلقّفها وبنى منها عمارة متينةً من أجمل بناءاتنا الشعرية وأقواها.
وبين حافظ الشيرازي (شمس الدين محمد) ومحمد شمس الدين قُربى فكر وروح وشعر عرفاني والتعامل مع الرمز اللامحدود والرقيّ بالنفس صوب سماء الشعر الناهدة إلى العلاء والنقاء والبهاء والصفاء في حضرة الجمال روحاً ونعمةً وتَجَلّي عطاء.
وبعد: لا يترجمُ شاعراً إلاّ شاعرٌ، كي يكونَ الشعر المنقول إضافةً جديدةً في اللغة التي جاء إليها، وكي يكونَ الأصل ازداد مساحةً جديدةً لائقةً تضافُ إلى مساحات متلقِّيه الأصليين. وهكذا ازداد حافظ الشيرازي انتشاراً مع بلوغ شعره قراءَ العربية التي ازداد شِعرُها غنىً أكيداً بهذه الإضافة “الشيرازية” الجمالية حَمَلها إليه شاعر متمكن من مستوى محمد علي شمس الدين.