السبت 23 نيسان 2005
-404-
تحية لتلفزيون “المستقبل” على تشريفه القضية التي يحملها منذ 14 شباط، مثبتاً بجدارة أنه جدير بإبقاء قضيته حيةً نابضةً في الضمائر الفردية وإيصالها إلى الوجدان الشعبي الجماعي، من دون تَفَجُّع استعراضي ولا نمطية غوغائية، بل بذكاء إعلامي نُصوصاً ومونتاجاً وإخراجاً وتوليفاتٍ قصيرةً فصيحةَ التصوير بليغةَ التعبير.
وإذا كانت فاجعة اغتيال شهيد العصر هزّت تلفزيون “المستقبل” (لأنها طالت مؤسِّسَه) فهو كان قبلها، وفي مراحل مفصلية سابقة، عوَّدنا على مواكبة الحدَث (حرب أفغانستان، حرب العراق،…) أو المناسبة (ذكرى مجزرة قانا، يوم العلَم، ،…) حاضراً دوماً في القضايا الوطنية عبر برامجَ وفواصلَ وأفلامٍ وثائقية توثيقية ملائمة.
هذا الأمر يقودنا إلى الكلام على الالتزام الإعلامي حين تكون الوسيلة الإعلامية ذات رسالةٍ أو قضية أو هدف، بإزاء وسيلةٍ إعلامية تجارية استهلاكية بحتة لا قضية عندها تسوِّقها، فتسحيل كـ”سوبرماركت” تفتح رفوفها لبضاعة متنوّعة، إرضاءً لطلبات الزبائن الذين، في سوادهم الأعظم، يستهلكون البضاعة الرخيصة والسلع السريعة لأن تلك التي ذات قيمة عالية لا تكون في السوبرماركت بل في المحالّ الغالية المتخصصة.
وإذا حيّدنا تلفزيون لبنان (كونه الرسمي الناطق باسم الدولة ولا هامشَ تحركٍ واسعاً لديه) فتلفزيوناتنا الخاصة في معظمها بلا هوية ولا قضية ولا جهد ملتزم، بل رفوف سوبرماركت لمن يرغب ومن يشتري.
ومع أننا لا نلوم التلفزيون الخاص (لكونه يرتكز أصلاً على المساحة الإعلانية وعليه أن يُرضي معلنيه ببرامج ولو رخيصة وتافهة إنما تغطّي المساحة الأوسع من المشاهدين)، فقناعتُنا أنّ بإمكان هذا التلفزيون التجاري أن يُمَرِّر بذكاءٍ وبِحضور غير ثقيل أكثر من “رسالة” وطنيّة أو ثقافيّة أو بيئيّة أو مدنيّة أو تربويّة، ضمن شبكة باقي البرامج الاستهلاكية.
وليس المطلوب من حيّز هذه الـ”رسالة” أن يكون وعظاً تبشيرياً معلَّباً، ولا مطرقة توتاليتارية لتمجيد الحاكم أو الحكم، ولا توجيهاً فوقياً مباشراً مُمِلاًّ منفِّراً، بل أن يقدّم الـ”رسالة” في أُسلوبٍ تلفزيوني ذكيّ يوصل إلى مشاهديه، وبطريقةٍ سائغةٍ مُحبّبة مدروسةٍ ذكيّة، التثقيف الوطني أو البيئي أو المدني أو الثقافي أو التربويّ، …
وكما تلفزيون “المستقبل”، بكل ذكاء، يعمل على جعل استشهاد الرئيس الحريري قضية وطنية حيّة كل يوم، بدون وعظٍ مباشَر ولا غسل دماغ ديماغوجي إيديولوجي، هكذا يمكن التلفزيون الخاص (وهنا: تلفزيون لبنان كذلك) أن تكون قضية لبنان الوطن قضيته الدائمة (ولو فضائياً كذلك) فيقدّم إلى المواطن توعية مواطنية (كمعظم برامج تلفزيون “المنار” الملتزم) ويساعد على تثقيف المواطن الفرد والمجتمع الأهلي المدني، ولو في سياق برامج أخرى ترفيهية تسلوية.
إن التلفزيون (الوسيلة الانتشارية الأسرع والأخطر والأفعل) أصبح اليوم الأكثر استقطاباً لأكبر مساحة بشرية تتلقَّف منه الأخبار والتعليقات وتتأثَّر ببرامج منه سرعان ما تصبح في تداول الناس اليومي.
أَلاَ بعضَ الالتزام، يا تلفزيوناتنا الخاصة، بقضايا لبنان الوطنية تقدِّمُها الشاشة بدون توجيه فوقي بل في ذكاء إعلامي يجعل في التلفزيون حيِّزَ رسالةٍ وطنية تقود (مع البرامج التسلوية العابرة) إلى واحةِ قيمٍ تبني للمواطن ثقافةً يرتقي منها إلى تهيئة جيلٍ حاكم جديد يتسلَّم غداً مقدّرات الوطن ويحكم بها لبنان.