الاثنين 3 كانون الثاني 2005
-388-
احتفلنا منذ شهر تماماً (2/12/2004) بذكرى ميلاده السابعة والتسعين. كنا عنده، وهو يتنقّل بيننا، بطيئاً كما مَلِك، هَـيِّـباً كما لُورْد إنكليزي عريق، ويدخل عتبة الثامنة والتسعين.
كنا حوله، لا كما حول عجوز نحتفل بعيد ميلاده، ولا كما حول كبير في العائلة نرضيه بالاحتفال، بل كما يَحتفل الخاشعون أمام رمزٍ حيٍّ يتهيَّبونه فوق ما يحبونه، ويتباركون بحضوره فوق ما يقدّرونه، ويجلسون إليه في اقتبال.
في اليوم الأول من هذه السنة الجديدة اتّصلتُ به معايداً. طال رنين الهاتف قبل أن يجيب. “نائم أنت؟” سألتُه في قلق فأجاب بنبرة وُثقى “لا. كنتُ أكتب”. توغّلتُ أكثر: “ألا ترتاح يوم العيد؟” فقال بعد بسمة صوتية: “كيف أرتاح والشغل مكدّس على طاولتي؟” (مكدّس؟ قالها كَمَن هو في الأربعين ويعمل ثمانية أيام في الأسبوع). ولم أكد أساله عن “الشغل” الكثير “المكدّس” حتى انفلش بشرحٍ تعداديّ فيه انشراح واعتزاز أكثر مما فيه سرد: “مقال أسبوعي كل أربعاء في جريدة “الحياة”، مقال دوري (أول سبت من كل شهر) في أُسبوعية “الكفاح العربي”، مقال شهري في “نوافذ” (ملحق أُسبوعي لجريدة “المستقبل”)، مقال دوريّ لمجلة “الأمن” الشهرية، عدا دوريات متفرقة ظرفية، وعدا الترجمة”.
كل هذا عدا الترجمة؟؟ تردّدتُ في تسآله لا عن شكّ بل عن إمساك بدهشتي قبل سماع الجواب، لكنه أردف ولم ينتظرني: “بعد أيام أُنجِز ترجمتي كتابَ توماس هيغينْز “ليبيا والغرب: من الاستقلال الى لوكربي” لأبدأَ بعدها بترجمة كتاب من أربعة أجزاء طلبته مني جامعة أميركية، حدّدتُ لإنجازه سنتين فوافقت الجامعة وأرسلت إليّ الكتاب”.
أكرّر: محدّثي خطا منذ شهر عتبة الثامنة والتسعين. يعني هو يدعونا الى الاحتفال بإنجاز ترجمته التالية فيما نحن نحتفل بعيده المئة. قالها وفي صوته نبرة المؤمن بالله والواثق من قدرته الذهنية والجسدية على مواصلة العمل كتابةً وترجمة.
أما عملُه اليومي فيتوزّع على قراءة الصحف صباحاً، والكتابة أربع ساعاتٍ بعد الظهر، والاستراحة من القراءة والكتابة سهرةً “كي لا أُتعِبَ عينيّ المشتغلتين طوال النهار بعدما أجهدتهما طوال هذا العمر”.
أكرّر وأُبَسْمِل وأُحَمْدِل: في الثامنة والتسعين، وها هو – يا ما شاء الله ويا أخزى الله عنه كل عين حسود – يُنجز هذه الأعمال لا في عافية وحسب، بل في نهم نبيل الى الإنتاج الأدبي، فيما أرى من لم يتجاوزوا الخمسين يُهَمْهِمون منكفئين منكسرين محبَطين: “ما بقى من العمر أكثر مما مضى” ويتقوقعون في يأسهم وإحباطهم فيشيخون قبل الشيخوخة.
نقولا زيادة – الدكتور، البروفسور، الأستاذ، المربّي، المؤرخ، شيخ المؤرخين العرب،…- لا يليق به لقب أكثر مما يليق به أن يكون فقط: نقولا زيادة، هو الذي نتعلّم منه، كلما زرناه، حبّةً من تجربته الطويلة، ونتعلّم لمعة من ذاكرته الصافية الأُعجوبية التي ما زالت ترفدُه بأدق الأسماء والتواريخ والتفاصيل، ونتعلّم منه – خصوصاً – نتعلّم الحياة وكيف تكون الحياة وكيف نستاهل الحياة عندما تعطى لنا بصحة وعافية وقدرة ذهنية وجسدية على الإنتاج الكتابي أو الفني.
عن مقولة عُقّالنا الموحّدين “فلْيَعِشْ طالما تليق له الحياة”. ولا أعرف في المبدعين الديناميين (عدا سعيد عقل- 93 سنة) مَن تنطبق عليه هذه المقولة مثل كبيرنا نقولا زيادة.