السبت 6 تشرين الثاني 2004
– 380 –
تسع صفحات فولسكاب. ثلاثة أيام مناقشات في المجلس النيابي. عمليات مَدّ وجزْر ووعود وتبريرات واتهامات وشهادات حسن سلوك. تبشير حكومي ملأ وسائل الإعلام عن “بيان وزاري مغاير” يبدّل صيغة “لم يكن بالإمكان أفضل مِمّا كان”، وإشاراتٌ مسبقة أنْ “لا تحكموا على أسمائنا بل على أفعالنا، وانتظروا البيان الوزاري”.
وانتظرنا أن يتمخّض الْجبل، فـ”باض” بياناً من “تسع صفحات فولسكاب” تعامل مع الوضع الراهن بصيغة إنشائية سرديّة رصفيّة متوّجة مقدمتها بـ”لن تصنع حكومتنا المعجزات” وواعدة بـ”تَخفيف الأزمة الاجتماعية والمعيشية، ولجم التردّي الاقتصادي، والتأسيس للإنقاذ في مختلف المجالات”. وهو كلام نحب أن نصدّق النوايا في تنفيذه، بما ورد في تعداد “الأُسس الإنقاذية” من “وضع مشروع انتخابي جديد” و”وضع حدّ للإهدار” و”متابعة تنفيذ اتفاق الطائف” ومعالجة مشاكل الكهرباء والمازوت والهيئات التعليمية ومواصلة خطط السياسة العربية والخارجية وإدارة الشؤون السياسية الداخلية. ولم ينس البيان الإكثار من سين “سوف” و”سوف” نفسها لإظهار حسن نوايا نريد مخلصين ألاّ نشُكّ فيها.
ولكن، يا شباب، يا إخوان، يا أصحاب المعالي واضعي البيان الوزاري، ألا تستحق الثقافة كلمة واحدة، ولو عابرة، في هذا البيان العابر وما فيه من وعود عابرة لفترة سبعة أشهر عابرة؟ وما دمنا في الكلام على العابر، ألا يدرك أصحاب المعالي واضعو البيان الوزاري أن العمل الثقافي هو وحده غير العابر في كل بيان عابر، وهو وحده الباقي في البيان غير الباقي ذي الوعود غير الباقية (ولو تم تنفيذها) والزائلة (مهما طال حضورها)؟
نفهم أن الناسَ اليومَ في حاجةٍ قصوى الى من ينفذ لهم حاجاتهم المعيشية الملحاحة من رغيف لمعجنهم وبنْزين لسيارتهم ومازوت لمدفأتهم ومعلّم لمدرستهم. ولكن هذه المطالب موجودة في جميع الدول، حتى الواقعة مثلنا تحت الديون، وحتى التي شعوبها محتاجة، كشعبنا، الى الضروريات. ولكنّ الحياة الثقافية لا تتوقف في تلك الدول، وتنشيطَ العمل الثقافي والإبداعي لا توقفه أية دولة من الدول (المتحضرة طبعاً) لأنها، مهما صعبت ظروفها، تعرف أن المبدعين كنوز الوطن الحقيقية التي يجب الحفاظ عليها وتشجيعها وتفعيل نشاطها حتى يظل للوطن كيانٌ مضيء في الداخل واستطراداً في الخارج.
فالدول (المتحضرة طبعاً) كانت، حتى في أشد حالات فقرها وديونها وحروبها، حريصة على استمرار أوركستراتها السمفونية ومسارحها الوطنية والنشاطات المسرحية والأدبية والفنية من كل نوع، وحريصةً على جعل السياحة (السياحية والثقافية والبيئية والدينية) جزءاً عضوياً من خطتها مع كل حكومة جديدة وبيان وزاري جديد.
أما أن تغيب الثقافة (والسياحة) كلياً عن بيان وزاري كثير الوعود، وأن تبقى موازنة وزارة الثقافة دون 2% من موازنة الدولة، وأن تبقى وزارة الثقافة بدون هيكلية، وأن يبقى وزير الثقافة (مهما كانت طموحاته وكفاءاته) مُحاصراً بإمكانات مَحدودة كأن الوزارة “كمالة عدد” أو تنفيعة وليست وزارة “سيادية” و”رئيسية” و”أساسية”، فجهل فاضح في الإبداع اللبناني الذي هو، هو وحده، ضمانة لبنان الباقي بعدما تنتهي جميع الترقيعات (هل ستنتهي حقاً؟)، وهو في الخارج صورة لبنان البهية النقية البعيدة عن زواريب الداخل التي يغرق فيها “بيت بو سياسه” ومعهم يغرق الوطن في حكومات سباعية أو تساعية أو ثلاثينية ليس فيها رمق واحد خارج الزاروب.