السبت 30 تشرين الأول 2004
– 379 –
كان لافتاً (بل صاعقاً بل مُذِلاًّ) ما تابعناه غروب نهار الانتخابات البلدية (قبل أشهر) حين راحت الإذاعات والتلفزيونات تبثّ النتائج، لا أسماء وأرقاماً بل (ويا عيب الشوم) محاسيبَ وأزلاماً، حتى بلغت الوقاحة في إحدى الإذاعات أن بثّت النتائج كالآتي: “فاز النائب (فلان) على الوزير (فلان) في بلدية (كذا) بعدد (كذا) من المقاعد، فيما اجتاح الوزير (فلان) جميع مقاعد بلدية (كذا) منتصراً على منافسه النائب (فلان) الذي لم يفز بأي مقعد في هذه البلدية”.
هكذا، وبكل بساطة وصلافة وبشاعة، هيمن وزراء الوطن ونوابه على البلديات، فكان المرشَّحون على البلديات (الفائزون منهم والخاسرون) أحصنة سباق في ملاعب السياسيين أو عصيّاً خشبية أو دمى قماشية يحركها السياسيون من خلف المسرح (ولكنهم في الحقيقة على المسرح مباشرة) يعني أن المرشحين لا قيمة لهم في أشخاصهم، بل الى من ينتسبون من “بيت بو سياسه”. ونادراً ما نجح مرشَّحون بأشخاصهم وذواتهم لا باستزلامهم ولا بانْحسابهم على أحد.
هذه الظاهرة المتخلّفة نفسها تكرّرت مؤخراً عند “طبخ” الحكومة الجديدة. فالترجيحات الصحافية كانت تنشر كل يوم أسماء مستوزرين، وتنشر حدّها بابازات “بيت بو سياسه” الذين يرشحون المستوزرين. يعني حتى الوزراء في لبنان لا قيمة لهم في أشخاصهم بل في الزعامات المحليّة أو القوى السياسية أو “الجهات العليا” التي تدعمهم أو ترشِّحهم أو تسميهم. والوزراء (على ما لدى بعضهم من كفاءات حقيقية لكنهم لا يحملون دائماً حقائب اختصاصهم) عبثاً يَجهدون في إقناع المواطنين أنهم وصلوا بفضل كفاءاتهم أو خبراتهم في حقول اختصاصاتهم وجاؤوا يَخدمون الوطن بِما لديهم من تَجربة اختصاص أو خبرة مهنية أو تَمَرُّس في دربةٍ جاؤوا الى الحكم ليخدموا عبرها الوطن.
يعني؟ يعني أن الشباب والاختصاصيين والموهوبين الطامحين الى خدمة لبنان عبر دخولهم الحكم فتكون لهم سلطة تنفيذ أفكارهم وأحلامهم وخبرات اختصاصهم، لا أمل لهم مطلقاً في دخول الحكم اللبناني من باب اختصاصهم أو خبرتهم أو تجاربهم أو أفكارهم للبنان المستقبل، إلاّ إذا دخلوا مزرعة العشائرية والمحسوبية والزبائنية والاستزلامية والاستسلامية والقبائلية والزعائمية والطائفية والزواريبية، وزرّروا ستراتهم أمام جهابذة “بيت بو سياسه” (أو الأبواب العالية التي يقف عليها بدورهم جهابذة “بيت بو سياسه”) حتى يكون للواحد منهم جواب “شافٍ كافٍ وافٍ” لا عن سؤال “أنتَ من؟ ما اختصاصُك وما كفاءاتُك؟” بل ليُجيبوا عن أسئلة “من هو زعيمك الذي أنت محسوب عليه؟” أو “أنت زلْمة من؟” أو “من هو الزعيم السياسي الذي يرشّحك؟” أو “هل زرت (فلان) ورضي عنك؟”.
وأمام هذا الواقع الْمُقرف يَجد الشباب اللبنانيون الطامحون أن وصولهم لن يكون بفضل شهاداتهم أو خبراتهم أو طموحاتهم، بل عن طريق المحاصصة السياسية والكوتا الطائفية والطبخات الزبائنية التي تجعل الموهوبين مُجرّد فئران في مُختبرات السياسيين. وعندا يـبصقون “تفوووو” ويهرعون عند أول سفارة تحملهم الى بلادها التي توصل الموهوبين الى مراكز يستحقونها وتستحقُّها مواهبهم، حتى إذا لمع أحدهم هناك وبرع ووصل الى منصب عالٍ، راحت الصحافة اللبنانية تتباهى بأنه من أصل لبناني وبأن لبنان حقاً (حقاً؟؟) “بلد المواهب لا بلد الطوائف والمذاهب”.