363: عيد سعيد عقل: 92 شمعة للبنان اللبناني

السبت 3 تموز 2004
– 363-
مَن يعرفون سيرة سقراط يعُون كم كان تلامذته ومريدوه مؤمنين بتعاليمه الكانت يومها خارجة عن المألوف السائد، وكم كانت زوجته الجاهلة “كزانتيبّي” تسخر منه ومنهم، تنعته بالجنون وتنعتهم بالأغبياء السائرين خلف “ختيار مجنون”. ومع الزمن زالت كزانتيبّي وجهالتها وأثبتت الفلسفة خلود تعاليم سقراط.
ومن يعرفون قصة غاليليو يعون كم كانت نظريته (بأن الأرض تدور حول الشمس) خارجة يومها عن المألوف السائد لدى ملايين الملايين من أتباع العهد القديم الذين نشأوا على أن الشمس هي التي تدور حول الأرض بدليل أن اليهودي يشوع بن نون أوقف الشمس ليكمل معركته. وكاد غاليليو يدفع حياته ثمناً لنظرية أقلية تواجه زحف أكثرية ساحقة هائلة، وكان ضعاف النفوس يومها يستغربون أن يطرح غاليليو نظرية تخالف معتقدات أكثر الناس. ومع الزمن أثبت العلْم صحة تلك النظرية الأقلية وضلال ملايين الأكثرية، وبأن الفرد مع الحقيقة هو أكثرية تبقى، والملايين مع الجهل والتعصّب والضلال يظلون أقلية تنهار.
بهذا المنطق نتحلّق غداً الأحد 4 تموز حول سعيد عقل كي نحتفل معه بعيد ميلاده الثاني والتسعين. ونشكر رب العالمين على ما حباه من عافية جسدية وذهنية وفكرية تجعله يومياً في عطاءٍ نابض بالحقيقة، ويواصل نشر تعاليمه عن لبنان اللبناني الذي لا يليق نعته إلاّ بذاته، مع كل احترام المعطيات السياسية والاقتصادية والبشرية التي يتشكَّل منها، لكل بلد، مداه الحيوي والجغرافي.
غداً الأحد 4 تموز نُطفئُ لسعيد عقل شمعته الثانية والتسعين ونشعل معها شمعةً جديدة تنير سنة أخرى من الكشف عن لبنان الحضارة التي شهد له بها كبار علماء الدنيا. فهوذا المؤرخ الفرنسي غبريال هانوتو يكتب: “صحيح أن لبنان ليس أعلى قمة في الجبال، لكنه، بلا جدل، أعلى قمة في التاريخ”. وهوذا بول مروان يكتب: “ذات يوم كانت صيدا وصور كل تاريخ العالم”. وهوذا العالِم الألماني أندريه غيغر يكتب: “البارثنون أقل بما لا يقاس من جمال بعلبك المهيب”، وكان جورج برنارد شو قال: “لو كانت بعلبك عندنا في إنكلترا لألغينا الضرائب لأن مردودها السياحي وحده يكفينا لإثراء خزينة الدولة”. وهوذا المؤرخ سترابون (معاصر المسيح) يقول: “إذا أعوزك مصدر ولم تجده في الدنيا، فإنك واجدُهُ حتماً في مجامع صيدا أو صور”.
وتتوالى أقوال كبار العلماء في لبنان، ولا تنتهي، وجميعُها وَعَّانا عليها سعيد عقل فحبَّبَنا بلبناننا الذي علامته الجودة لا الكثرة، والنوعية لا العددية، والإبداع لا الجغرافيا ولا الديمغرافيا، لبنان الذي على أبنائه أن يعرفوه فلا يظنوا أنه دولة مهترئة بسياسييها وأزلامهم ومحاسيبهم وزبانيتهم وسياساتهم “الزواريبية” الضيّقة- فهذه جميعها آنيات زائلة كمسببيها الزائلين – بل على أبناء لبنان أن يعوا عمق وطنهم الذي به وحده يقْوَون كي يبنوا من هذا الوطن دولة قادرة قوية واعية مستقلّة رائدة.
مشكلة أبناء لبنان أنهم يخلطون بين لبنان الوطن الكبير بحضارته، ولبنان الدولة الصغيرة بسياسييها، فيجدون كلام سعيد عقل الفرد يسير ضد الأكثرية الجارفة التي هي بالضلال مجروفة، وبالجهل جارفة، وهي جرَّافة يقودها صغارُ نفوس وضعافُ إيمانٍ لصيقو الأنوف بالتراب، يرون الطحالب ولا يرون سطوع الشمس. والحقيقة شمس دائماً فوق، والجهالة طحالب دائماً تحت.
في عيد سعيد عقل الثاني والتسعين نضرع الى الله أن يَمُدّه بالعافية الدائمة، كي يظلَّ لدينا رجاءُ المؤمنين بلبنان الوطن لا جهلُ المتقوقعين بلبنان الدولة، والمؤمنين بالحضارة لا المتقوقعين بالسياسة. فالمؤمنون هم أبناءُ لبنان المستحقون تراثه، والمتقوقعون هم أحفاد قضاة غاليليو الذين سحقتهم الحقيقة، وأحفاد المرحومة “كزانتيبّي” التي ماتت متنعّمةً بجهلها وهي تظن أنها تسخر من زوجها “المجنون الختيار”.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*