السبت 30 آب 2003
الرباط – 0 2 3 –
الصديق الشاعر محمد الفيتوري يعبر بي شوارع الرباط في تُؤَدَة وتوتّر معاً. فالفيتوري (الْمتوتر التائه دائماً كحال كبار الشعراء) يقود سيارته بالتوتر نفسه والتيهان إياه، فيعيدني الى قول الْمتنبّي “على قلق كأنّ الريْح تَحتي”.
نعبر فيشرح لي الشاعر الكبير: “هنا صومعة حسان، من أيام السلطان يعقوب الْمنصور الْموحّدي، قربَها ضريْحا مُحمد الْخامس والْحسن الثاني. وهنا السور الكبير الْمحيط بالقصر الْملكي. وهذه أبواب الرباط الْخمسة تشهد على عراقة الرباط الْمشادة في القرن الثاني عشر أيام يعقوب الْمنصور، والْحاملة آثار الْحضارات الفينيقية والقرطاجانية والرومانية والإسلامية”. نَمُرُّ بقصبة “شالة” ومنطقة “الأوداية” وتَمرُّ بنا الطاكسيات (بالطاء لأصلَها الفرنسي تَمييزاً لَها عن التاء العربية، ولذا نقرأ “أوطيل”). ولأن الْحر شديد في غُشْت (بضم الغين وتسكين الشين، وهي “آب” عندنا و”أُوت” في تونس و”أغسطس” في مصر والْخليج) اقترح الفيتوري برودة الْمحيط فقصد بي شاطئ الأطلسي (أعادني الى أيامي على ضفته الأُخرى في فلوريدا أيام “الْمنأى الْمؤقّت” على “بُحيرة الليمون”). وعلى الشاطئ الرملي، اجتزنا نقاط “سيدي العابد”، و”الرمل الذهبي”، و”سهب الذهب” (سهب: وادي)، و”وادي يكم” (بفتح الياء والكاف) وبلغنا شاطئ الْهرهورة، حيث انتحى الفيتوري يَميناً لنترجل في واحة ميرامار.
ومن الشرفة، حيث كانت طاولتنا في هذا الْمطعم، انفلش أمامنا السابِحون بالْمئات، يتمتّعون بذهب الشمس مَجاناً (من دون أن يدفعوا، كما عندنا، ثروةً لأصحاب “البيتشات” أبطال مُخالفات الأملاك البحرية).
في الْمطعم، سمعني الْمسؤول أخاطب الفيتوري باللبنانية، فاقترب واستأْذن بلطفٍ وتَهذيبٍ يسألني عن لبنان وكيف صار اليوم، موضحاً أنه كان يَخدم في أحد مطاعم عاليه أيام العز (قبل 1975) واضطر لِمغادرتِها في بدء الْحرب. وراح يُخبرنا بعضاً من ذكرياته في عاليه مردفاً أنه تنقل منذئذ الى عواصم ومدن كثيرة قبل أن يعود الى الرباط مكان “ازدياده” (أي مكان ولادته، بالاصطلاح الْمغربي) لكنه يعتبر أن أجمل أيام عمله كانت في لبنان و…”حافظوا على جنَّتكم، يا أستاذ، لأنّها الْجنّة الْحقيقية على الأرض”. وفيما أجبته باللطف عينه، كنت في صمتي أهدر بالغضب على طقم سياسي عندنا لا يرى أبعد من أنفه ومصالِحه الشخصية والانتخابية، ويسهم في تصحير لبنان وتَحويله بؤرة مشاكل ومشاحنات وخصومات سياسية وانتخابية وزاروبية، فينهار الاقتصاد فيه وتنهار السياحة ويتفرق السيَّاح على مدن وعواصم مُجاورة وصديقة ومُحيطة، ونبقى نَحن عاطلين عن التحرُّك، لا نَملك إلاَّ نتغنّى من الإذاعة بـ”جنات عَ مـدّ النظر” تتحوّل على الأرض مقالع وكسارات تعمل في ظلام التقنين الكهربائي.
بعد “جُوج” (“زَوج” عندنا و”زُوز” في تونس) أي كوبَين من الشاي الْمغربي بالنعناع مع صحن من حلوى “كعب الغزال”، عاد بي الفيتوري من تلك الْجولة الْمغربية الْجميلة التي طرّزها بصداقته الغالية وشعره العالي وحنينه الدائم الى لبنان، ولعلَّه أرفع ضيف غناه يوم قال: “أنت في لبنان والْخلد هنا… والكبار العبقريون أقاموا”.
غير أنَّ معظم سياسيينا أمِّـيُّون لا يقرأون الشعر.