السبت 21 حزيران 2003
– 0 1 3 –
فيما مطر الشمس الصباحية يتغلغل بين رؤوس الصنوبر مُخترقاً أغصانه العالية، منسحباً إلينا خيوطاً تشتاق تقليدَها ريشة فروخ والأنسي، كنا نتوغل في حرج رأْس الْمتْن، على كتف شير مهيب فوق “وادي لامرتين”، الى رحلة مشي في الطبيعة دعاني إليها، صبيحة الأحد الْماضي، الأصدقاء من وحدة رأْس الْمتْن التطوُّعية في “جَمعية حِماية وتنمية الثروة الْحرجية” (“أزرار” 308 – “النهار” 7 حزيران 2003).
ولأن الغاية من هذه البادرةِ التركيزُ على اكتشاف التنوُّع البيولوجي (التعرُّف على ما في غابات لبنان من أشجار ونبات وحيوانات وصخور وتضاريس وتكوين طبيعي،…) والاعتياد على العودة الى الطبيعة الأم، فضلاً عما للمشي في الْهواء الطلق الصباحي من رياضة صحية ومفيدة، وما للبادرة، لو تتعمَّم، من فائدةٍ عظيمةٍ على مستوى السياحة البيئية، كان الْمشي تلك الصبيحة خارجاً عن مأْلوف الصباحات.
وما كان أغنى ما به مررنا وعاينَّا وشَمْمنا واختبرنا في مرورنا (طوال ساعتين) متوغلين في حرج بكر (إلاّ في بعض منعرجاته): هنا فروع الوزال والطيون والزعتر والقصعين والريْحان والْحنبلاس، هنا أعشاب طبيةٌ وعطريةٌ نادرة غير مكتشَفة، هنا القطلب (بضم القاف واللام وتسكين الطاء) شجرة ذات جذع بني جميل (نادرة في حوض البحر الأبيض الْمتوسط، وحتى في لبنان ليست موجودة إلاّ في منطقة الْمتن الأعلى). واستوقفني شوك بنفسجي غريب اللون جميل الشكل (يسمى “شندب”)، واستوقفتني أزهار غريبة التكوين جميلة البتلات والأعناق، وحشرات أليفة مدهشة الألوان، وأشجار زيتون متروكة لوحدها في تلك الْمنعرجات الدغلية كأنّها حارسةُ الْمكان ببركتها الدهرية. وطَوال الطريق الْمُتَأَفْعِنة (بين علوة ووهدة) تظلِّلُنا أشجار الصنوبر العنفوانية، منها الصامد بِجذعه الْمئوي السنوات، الْمهيب الضخامة والطول، ومنها الْملوي الْمكسور بفعل حريق هائل شب في بلدة مُجاورة وطال حرج رأْس الْمتن فينفطر قلبي لِمشهد جثة الشجرة مَحروقة مُسجاة في ناحية قاحلة، ومنها الْمحروق الْجذع وبعض أغصان لكن الاخضرار بدأ يعود الى هامة الشجرة كي يتوزَّعَ لاحقاً على كامل الشجرة فيعيدَ إليها خضرتَها الدهرية.
مررنا بقبو مَهجور من العقد القديم، أمامه مطحنة قديْمة وبيدر، وما زالت أمامه آثارُ بئر مهجورة واضحة الثغرة، ودولاب كبير كانت به تصل الْمياه من البئر الى شاربيها. ومررنا بنواويس قديْمة جداً كانت ملحقةً بقصر روماني قديم على تلة مُجاورة ما زالت آثارُهُ مذرورةً في الْمحيط. ومررنا بصخور شبْه مسوّاةٍ كانت في الْماضي طريق الدوابِ وعرباتِ الْخيل تَجرُّ الناس من أسفل الوادي السحيق الى ساحة رأْس الْمتن.
ويطول الشرحُ والوصف لكثرة ما يغتني البصر بِمَشاهدَ نادرة، ويسعد الشَّمُّ بعطور الطبيعة، ويطرب السمع لِموسيقى مياه تَحتنا وعصافير عابرة فوقنا، كأننا في قطعة جنةٍ صغيرة على أرض رأْس الْمتن.
ويا طيبها رحلة لو يقوم بِها أبناؤنا (شباناً وصبايا) كما يفعل شباب رأس الْمتن وصباياها، إذن لاكتشفوا في طبيعة بلادهم غنى رائعاً يرفدهم نعمة وصحة وعافية في سَماءٍ ساحرةٍ على أرض لبنان.