السبت 24 أيار 2003
– 6 0 3 –
عجبتُ له، وهو غاب دون السادسة والْْخمسين (1903-1959)، كيف أمكنه أن ينتج بتلك الغزارة !
عجبتُ له، وهو ترك كل هذا الإرث الْهائل الْمذهل، كيف لَم يساوم على مستواه الأدبي، فكتب كل ما كتب (وما أكثر ما كتب) بأيّما أناقة وأيّما بلاغة، وأيّما توثيقية وثقى لروايات تاريْخية في كل صفحة منها عودة الى مرجع، أو حصيلة قراءات طويلة، أو تدقيق علمي لا مَجال معه لشطحات الْخيال الروائي، بل إسناد تلو إسناد.
ست وخَمسون (يعني أنا بعد سنتين)! فيا لضآلة ما أنتجتُ وأنتج أتراب جيلي، بإزاء جدية مسؤولة تعامل بِها كرم ملحم كرم مع موهبته النادرة: ألف قصة وقصتين، عشرات الروايات التاريْخية، مئات القصص القصيرة، إنشاؤه مَجلة “ألف ليلة وليلة”، إنشاؤُه جريدة “العاصفة” الأسبوعية، إنشاؤه مَجلة “الأسرار” القصصية، تَحريره صحفه ومَجلاته لوحده، كتابته الافتتاحيات والْمقالات والتعليقات والْخطب والْمحاضرات، ترجَمته مئات القصص، تَحريره (ذات فترة) في ثلاث صحف يومية دفعة واحدة، كتابته أحياناً ثلاث مقالات (مُختلفة الْمواضيع) في وقت واحد،… وحين مات (يقول لَحد خاطر) “كان لديه ما لا يقلّ عن مئة قصة جاهزة للطبع”، وهو (كما يقول سعيد عقل) “ما وقع القلم من يده لأنه مات، بل مات لأن القلم كان قد وقع من يده… وجاورت آثاره الألف”.
الألف!! يعني أنه جاوز بالكثير هونوريه دو بلزاك (مغزار الأدب الفرنسي)، ولا يذكر مؤرخو الأدب من كتب بقدر ما كتب كرم ملحم كرم، لا بالكم وحسب بل بأناقة وبلاغة لَم يفقدهما في كل ما كتب.
الألف!! ومع ذلك كان يَجد الوقت ليتابع أولاده، والوقت ليعيش حياته الاجتماعية، والوقت ليمضي الوقت مع خلانه وأصحابه، والوقت لكي يتابع الْمطبعة ويسهر على إخراج صحفه، والوقت ليقرأ كتب التاريْخ قبل أن يكتب روايات التاريخ، والوقت كي يراجع بروفات كتبه في الْمطبعة، وهو (لشدة ما كان أنيقاً من الثياب الى الكتاب) أحرق 4000 نسخة من روايته “الْمعدوم” لأنه بعد طباعتها اكتشف غلطة مطبعية في الصفحة الأولى.
أمس الْجمعة، أمضينا نَهاراً كاملاً في ضيافة جامعة سيدة اللويزة التي أعدت “يوم كرم ملحم كرم في دير القمر” جلسات ثلاثاً مُمتعة التنظيم والْمضمون، انتهى في “مربَّع” كرم الذي فيه ولد قبل مئة عام.
كان الرئيس بشارة الْخوري أمر أكثر من مرة بتعطيل “برق” سَميّه بشارة الْخوري الأخطل الصغير. وبعد انتهاء ولايته، التقى الرئيس بالشاعر في مطار بيروت، فبادره: “كل دولة تدول يا سَميي إلاّ دولة الأدب. ها أنا بشارة الْخوري كنت رئيساً واليوم أنا في البيت، بينما أنت كنت الشاعر وما زلت الشاعر وستبقى على رأس دولة الأدب”.
أمس، في دير القمر، كانت الدولة كلّها حاضرة، وكانت حاضرة “دولة الأدب”. وفي “مربَّع” كرم الذي ليس سوى غرفة واحدة (من 7×7م.) أحسسناه (على صغره) قصراً شاهقاً لدولة لا تدول ولا تزول، وكل ما عداها زائل ببنيانه وإنسانه، دولة أسسها من غاب دون الستة والْخمسين تاركاً فيها إرثاً لستة وخَمسين جيلاً تتوارثُها وتورثُها على اسْم مؤسس عبقري ولد في “مربَّع” صغير من دير القمر ليترك بعده أقماراً خالدة لا تَمحوها الليالي.