300: هويتنا بين العَولَمـَة والمَوْطنَة

السبت 12 نيسان 2003
– 0 0 3 –
إذا كان 11 أيلول 2001 (سقوط هيبة الأمبراطورية الأميركية) حجة (طبيعية حاصلة أو اصطناعية “مفبركة”) لوضع مُخطط العولَمة الإحادية (تَحت قناع “ضرب الإرهاب” أو “إتلاف أسلحة الدمار الشامل”، …) فيبدو أن 9 نيسان 2002 (سقوط هيبة النظام العراقي) هو البدء بتنفيذ تلك الْخطة.
وإذا صحّت تقديرات التنظيريين السياسيين بأن هذه الْخطّة لن تتوقّف في العراق، وتقديرات الْخبراء السوسيوسياسيين بأن الْجزمة الأميركية تأتي الى الْمنطقة بِمقولة “تَحرير شعب العراق” والْمُضمَر لديها أو لدى مُرْسليها أنّها تأتِي لـ”تَحضير شعب العراق ومن ثم شعوب الْمنطقة” (تَحضير بِمعنى “تَمدين” شعب متخلف ورفعه الى مستوى “الْحضارة الأميركية”) فمعنى ذلك أننا مقبلون على هيمنة طويلة الْمدى، ظاهرها “إنسانِيّ” وباطنها “عدوانِيّ” يترجم ما في عقلية منفذيها من “حرب على الْحضارة” (كما جاء في “أزرار” 298 قبل أُسبوعين).
إذا لَم تصحّ تلك التقديرات (يعني إذا كنا ساذجين جداً وصدّقنا بأن الأميركان جاؤوا لـ”يُحرروا” شعب العراق و”يعيدوا” إليه بتروله، وهذه فضيلة ذات تضحية عظمى لَم يتوصل إليها مار شربل في أيامه)، فمعناه أن “القطوع فات”. وإذا صحّت التوقعات، نكون واصلين الى “إعادة رسم خارطة” للمنطقة على مُختلف الصعد السياسية والسوسيولوجية (كي لا نتشاءم كثيراً ونصل الى الصعد الْجغرافية أو الديْموغرافية). فكيف نواجه هذه الْهجمة؟
نواجهها أولاً بوقف كرنفالات التظاهرات واليافطات والاعتصامات والشعارات و”الشموعات” والاحتجاجات وتدبيج الكتابات ورفع البرقيات الى هذا وذاك من بقايا الأمم الْمتحدة ومَجلس الأمن أو عُـتاة الدول الكبرى الذين لن يسمعونا لأن مُخططهم لا ينتظر رأينا ولا موافقتنا حتى يكمل زحفه الْمتَجَحفل عسكرياً أو سياسياً أو لوجستياً.
ونواجهها بعد ذلك، وأساساً، بكامل وعينا أننا شعب ذو خصوصية عريقة، بفضلها لن يستطيع فارض أن يَجعلنا متلقّين ضعفاء يرضون ويقبلون وينصاعون (مثلما كان العسكر السنغالي حطّ عندنا عام 1943 بذهنية “جئنا لتمدينكم” (moi civiliser vous). والْخصوصية هنا تعني الْهوية. والْهوية تعني ألاّ نضيع في عمومية هي منطق أعدائنا الذين، بِحجة أنّهم “يَهود”، يعمِّمون قضيتهم ويتنادون من كل أقطار الدنيا ليتقاطروا الى “أرض الْميعاد” التي وعدهم بِها الْمرحوم موسى.
الْخصوصية هي الْهوية، والتعميم ضياع الْخصوصية يعني ضياع الْهوية. ومن تضيع خصوصيته، يعني هويته، لن يُحارب ولن يَموت من أجل أحد أو من أجل قضية. فابن كيبيك هويته كندية، ولن يُحارب من أجل الفرنسي (في فرنسا أو أفريقيا) لِمجرد أنه يتكلم مثله الفرنسية. إذاً فاللغة لا تعطيه الْهوية بل تعطيه إياها خصوصيته الكندية. وابن روما لن يُحارب من أجل الأميركي لِمجرد أنه مثله كاثوليكي. إذاً فالدين لا يعطيه الْهوية بل تعطيه إياها خصوصيته الإيطالية.
الْخصوصية هي الدرع الواقية التي تعطي الإنسان الْمَوْطَنَة، وبالْمَوْطَنة وحدها يواجه العَولَمَة فلا تبتلعه هذه بل تغنى منه ويغنى بِها في تراشُح “أوسْموزي” مفيد يَجعل العولَمة خادمة عند صاحب الْخصوصية، لا سيّدة متسلطة تُخيفه.
الخصوصية ليست التقوقع ولا الانغلاق ولا الانعزال. بل هي الهوية الواعية خصوصيتها والْمنفتحة على سائر الْهويات والْخصوصيات، معها تتفاعل وبِها تَغنى وإياها تُغْني. وبِهذه الخصوصية، مثلاً، يتميّز اللبناني بِهويته، فلا تُخيفه العَولَمة بل يواجهها بِحضارته وتراثه، تأخذ منه وتعطيه، وتَحترمه مواطناً عالَمياً من لبنان، خصوصي الْهوية، لبنانِيّ الْمَوْطَنَة، منفتحاً على السوى، ومقْبلاً على العولَمة بشجاعة الانتماء الْحضاري.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*