السبت 29 آذار 2003
– 8 9 2 –
أبعد من أن تكون الْحرب على العراق “عملية عسكرية” لـ”تغيير” حكامه ونظامه،
وأبعد من أن تكون حرباً يشنُّها حاكِم متغطرس على حاكِم متفرّد، والشعب بينهما يصرخ”لا” فلا يسمعان،
هي حربٌ على التراث والْحضارة وكل الإرث التاريْخي الْخالد الذي يستريْح في أرض الرافدين وبلاد ما بين النهرين، وكل ما تستدعي الذاكرة من حضارة أور وكلدان وما قبلَهما وما بعدهُما من إرث لِحضارة العالَم.
فكيف يُمكن بلادٌ عمرها لا يتجاوز الْخمسمئة سنة أن تَجتاح بلاداً عمرها آلاف السنوات، على ما في الأولى من تقدُّم تكنولوجي من قال إنّ الأخيرة لَم تكن وصلت إليه نسبياً في عصرها ذاك؟
اليوم يثبت أن مقولة “صراع الْحضارات” واردة في غرب هانتنغتون (لبلوغ عولَمة واحدة وحيدة) لا في شرقنا الذي كان ولا يزال أرض “حوار الْحضارات” (لبلوغ عالَم متصالِح). واليوم يتأَكَّد أن 11 أَيلول كانت منعطفاً “أميركياً” استغلّته الولايات الْمتحدة (أو “شاءته” أو – ولِمَ لا – “افتعلتْه”) حتى تـتحجَّج به للانقضاض على أرضٍ لا ترى فيها سوى البترول السائل، مع أنّها تعرف – ونشك في كونِها لا تعرف – ما في هذه الأرض من بترول دائِم هو الإرث الْحضاري الذي لا تَجف آباره.
الانقضاض، قلت؟ بل الأصح: الانتقام من شعب حيّ تَمكَّن علماؤه من بلوغ درجة علمية وتقنية عالية أخذت تُهدد حليف أميركا الإسرائيلي الذي “يتمسكن” فيوعز بالأقنعة الواقية ويطرح الصوت عالياً مستغيثاً.
أهذه هي العولَمة “الأميركية”: أن تسعى الى مَحو كل أثر حضاري وتراثي وتاريْخي حتى تَخلو الساحة لعاهري تل أبيب فينـتقلوا من “شرطي الشرق الأوسط” الى “الْمندوب السامي الأميركي” في الْمنطقة؟
فرنسا وألْمانيا وعتا هذا الأمر لأنّهما تعرفان خطورة تَهديْم الْحضارة. وليست مصادفة أن يوعز هتلر لِجيشه قبل دخول باريس ألاّ يَمس أحد معلماً تراثياً واحداً من معالِم باريس العريقة. فهل صواريْخ باتريوت وطائرات الأباتشي اليوم تُميّز بين معالِم العراق التاريْخية والْحضارية والتراثية وتلك العسكرية الْمستهدفة؟
ونَحن في لبنان ما زلنا نذكر كيف أثناء اجتياح 1982 تَخصصت فرقة من جيش العدو لنهب آثارنا في صيدا وصور وسواهُما من جنوبنا الغنيّ والْهرب بِها الى إسرائيل، كما نشهد كيف لا تزال إسرائيل (منذ 1948) تُمعن في العمل على مَحو كل أَثر لِمعالِم حضارية أو تاريْخية أو تراثية أو دينية في فلسطين.
العدُو الذكي البطاش يعرف أن تغيير النظام أو الْحاكم أو القيادات بكسر الْجيوش عملية تعبُر وتليها تغييرات،لكن ما لا يُمكن تعويضه هو أيُّ واحد من معالِم عمرها مئات السنين ضالعة في تاريْخ الشعوب ووجدانِها.
والذين يتظاهرون في العراق أو في العالَم من أجل العراق (عبر الْهتافات السخيفة “بالروح بالدم” أو بأساليب حضارية راقية) يَحملون في لاوعي وجدانِهم – أدركوا ذلك أم لَم يدركوه – ثورة الدفاع عن حضارة عريقة لا يُمكن قَتَلَةَ الْهنود الْحمر أن يدركوه اليوم على مكابس الكومبيوتر.