السبت 22 آذار 2003
– 7 9 2 –
في أواخر الْحرب العالَمية الأولى (1917) قام رئيس وزراء فرنسا جورج كليمنصو (1841-1929) بِجمع أركان الدول للبحث في إنْهاء الْحرب. وخاطبهم بِحضوره الذي منحه لقب “النمر”، قال: “دعوتُكم اليوم، أيها الزملاء القادة، بعدما سَمعتُ كثيرين بينكم يتحدَّثون عن ضرورة العمل لبلوغ عالَم يسود فيه السلام فلا تعود إليه الْحرب. وإنني أفتتح اجتماعنا هذا بسؤالكم: هل فعلاً وحقاً وبكل عمق قراركم تعنون ما قلتم بالوصول الى سلام فعلي ودائِم”؟
والتفَتَ حوله فرأى رؤوس القادة تَهز الى أسفل، علامة الإيْجاب، بل التأْكيد. فأكمل كليمنصو: “إذن، أعطوني دقائق أعرض لكم فيها ثَمن هذا السلام الذي تنشدون أن تبلغوه. السلام، يا سادة، يعني أن نتخلَّى عن أمبراطورياتنا ومستعمراتنا والأراضي التي ما زلنا نَحتلّها. يعني، يا حضرة حليفنا البريطاني اللويد جورج، أن تتخلى عن الْهند. ويعني أن نتخلى نَحن، كفرنسا، عن أفريقيا الشمالية. ويعني، يا حضرة الأميركان، أن تتخلّوا عن سيطرتكم على الفيليبين والْمكسيك وكوبا. يعني أن نبادر، نَحن القوى العظمى اليوم في العالَم، فنتخلّى عن سيطرتنا على الدول التي ظلمناها احتلالاً أو قهراً أو زوراً، ونفكك الْجدران الْمصطنعة التي أعليناها حول مستعمراتنا وشعوبِها التي سحقناها تَمزيقاً وتفريقاً، فنحررها ونفتح العالَم على بعضه البعض. هكذا نكون فعلاً وحقاً نُحقِّق السلام”.
والتفَتَ حوله مُجدداً فرأى رؤوس القادة تَهزُّ الى أعلى، علامة الرفض والاستغراب والتعجّب، وأخذوا يتسابقون في توضيح أنّهم لَم يكونوا يعنون ذلك تَماماً وبالضبط حين تَحدثوا عن السلام الدائم.
عندئذٍ ضرب كليمنصو أمامه على طاولة الاجتماع وانتصب مبادراً الْحاضرين: “إذن يا سادة أنتم لا تعنون السلام في كلامكم، إنّما تعنون الْحرب. فلا تضيعوا وقتكم بالبحث عن السلام، لأنكم، آجلاً أم عاجلاً، صائرون الى الْحرب”.
ولَم تَمض عشرون عاماً على هذا اللقاء حتى اندلعت الْحرب العالَمية الثانية.
كان ذلك في القرن العشرين الذي لَم يكن فيه سوى كليمنصو واحد، لَم يسمع كلامه أكثرُ القادة الْمتغطرسين.
أما القرن الواحد والعشرون، ففيه أكثر من كليمنصو تَحدّثوا، ولَم يسمع كلامهم القائد الْمتغطرس الواحد.
في مسرحية “بترا” للأخوين رحباني، تقول ملكة “بترا”: “بِحرب الكبار، شو ذنب الطفوله”؟ ولو كان لَها اليوم، لقالت: “في حرب الأنظمة الطاحنة، ما ذنب شعوبِها (هي قبل سواها) تدفع الثمن على أرضها أو على أرض الغير البعيدة”؟
شو يعني أن يدفع شعب أميركا ثَمن “ديْمقراطية” يريد نظامها أن يفرضها على الآخرين كما فرض الكاوبوي “ديْمقراطيته” على الْهنود الْحمر حتى بات أحفاده اليوم يرون كل الشعوب أحفاد “الْهنود الْحمر”؟
وشو يعني أن يدفع شعب العراق ثَمن “ديْمقراطية” يريد نظامه أن يفرضها عليه نَسَقاً نَمطياً لِحكم “ديْمقراطي” متناسل في جَميع الدول العربية، يتغرغر به حكامها ويتنافس في شرحه ملوكها والرؤساء حين يعقدون مؤتَمرات القمة؟
وأيُّ مستقبل ينتظر غداً أطفالَ اليوم الذين، من الْملجأ أو على شاشة التلفزيون، يتابعون سوريالية ما يَجري؟
فلا بُدّ أنّ طفلاً في فيلادلفيا يشاهد الـ”سي. إن. إن” يسأل أمه: “لِماذا أبِي يُحارب هناك، وهناك ليس أميركا”؟ ولا بُدّ أن يضيف شقيقه الأكبر: “هل الديْمقراطية، التي تَحدث عنها مستر بوش، تعني أن يَموت هؤلاء الأطفال هناك”؟
ولا بُدّ أنّ طفلاً في بغداد، وفي اللحظة نفسها، يَخرج من بين دموع خوفه ويسأل أَباه في عتمة الْملجأ: “شِـنُـو يعني الْجامعة العربية”؟ ولا بُدَّ أن يضيف شقيقه الأكبر: “لويش إحنا عرب”؟