281: غادراه كي يظلاّ يُحِبّانه

السبت 30 تشرين الثاني 2002
– 281 –
في رسالةٍ إلى صديق يدعى منصور (مَجهول باقي الْهويّة، فهل من يعرف عنه شيئاً؟) جوابيةٍ عن دعوةٍ من منصور لِمرافقته إلى لبنان، كتب جبران (1924) رسالةً مؤثّرةً جاء فيها: “تسألني إن كنتُ أودّ الرجوع إلى لبنان؟ طبعاً أحبُّ أن أعود إلى موطن حداثتي… أفكّر كل يومٍ بالعودة إلى لبنان، إلى بشرّي، إلى مار سركيس، إلى شرفة مار جرجس التي يزلق عنها الطير، إلى مرجحين وراء جبال الأرز حيث نَملك مزرعة فأعيد ذكريات الصبا في أحراجِها، … ولكن، يا منصور، إذا عدتُ إلى لبنان، إلى بشري، فهل يـبقى الناس هناك طويلاً على احترامي، أم لن يَمضي وقتٌ على بقائي هناك حتى يـبدأ أقرب الناس إلَيَّ بالْهزء مني؟ دعني يا منصور، دعني أبقى بعيداً، فأظل أُحب لبنان ويظل لبنان يُحِبُّني” (ص 114-115 من كتاب “جبران مُصلح وفيلسوف” لغريغوريوس متري – شيكاغو 1980).
وغداة وصول أمين الريْحانِي إلى نيويورك (1939) لإلقاء مُحاضراتٍ عن الشرق، سأله صحافِي من جريدة “مرآة الغرب” النيويوركية: “ما رأْيُكَ في رجوع الْمُهاجرين إلى الوطن القديْم؟ هل يكون الْمُهاجر سعيداً إذا عاد إلى لبنان”؟ فأجاب الريْحانِي: “نعم، الْمهاجِر العائد يكون سعيداً ويعيش أحسن عيشةٍ في لبنان، أجْمل بلاد الله، إذا تَحقَّقت له ثلاثة شروط: أن يكون قلبُهُ متحجّراً فلا يتأَلَّم لِما يشعر به حوله من أمور سياسية واجتماعية مُكَدِّرَة، وأن يكون له حسابٌ متحجّر في الْمصرف فيستقِلّ عن الناس كل الاستقلال، وأن تكون له مهنة يلتذُّ بِها وتشغلُه لئلاَّ يقتلَه الضَّجَر” (عن “النهار” – زاوية “عابرات”- الأحد 23/6/2002).
ما الذي جعل كَبيْرَيْنا في الْمهجر الأميركي يصرِّحان بِهذا الكلام على لبنان، وكلاهُما كان في القمة (جبران كان أصدر “النبِيّ” عام 1923 وبدأ يذوق الْمجد والشهرة، والريْحانِي كان في عزّ الشهرة، وقبل سنة واحدة من وفاته عام 1940)، وفي قلب كلٍّ منهما كلُّ الْحُب للبنان (جبران لَم ينفكّ يوماً عن التعلّق بلبنان النوستالْجيا، والريْحانِي كان مشبعاً بـ”قلب لبنان” الطبيعة والْجمال)، وكلاهُما عاش في الولايات الْمتحدة، بل “ذاقَها” طولاً وعرضاً وشُهرةً وتكريْماً ونظاماً وترتيـباً وانضباطاً وولاءً للدولة لا لأصحاب الدولة وتَحت سقف قانون لا مزرعة.
فَما الذي دفع بِهِما إلى قول ما قالاه؟
طوال إقامتي في الولايات الْمتحدة (ست سنوات بين “بُحيرة الليمون” وولايات كثيرة زرتُها مُحاضراً أو سائِحاً) كنتُ كلّما عاينْتُ ظاهرةً انضباطية نظامية مهندَسة مهندمَة، أسأَلُني: “لِماذا لا يكون في بلادي مثلُ هذا التنظيم والنظام والترتيب والوعي على أمور مدينية أو بيئية أو صحية أو مدنية أو تنظيمية”؟ وكنت كلَّ مرّة أُجيـبُني الْجواب نفسه: “لأن الولاء في بلادي ليس للوطن، بل للشخص والْمزرعة والقبيلة”. مع ذلك كان حنيني إلى لبنان يشُدُّ بِي للرجوع، مع كامل وعيي ويقيني أن رجوعي سيصطدم بِما كان يصدمني قبل سَفَري إلى الولايات الْمتّحدة.
ولولا قوة شخصية الريْحانِي، وفرضه نفسه “بطريركاً” على وسطه وبيئـته، لكان غرق في تفاهات الناس العاديّـين الذين خشيهم جبران (وهو على حق) في رسالته إلى ذلك الـ”منصور” صديقه (هل مَن يعرف مَن هو؟).
مُشكلَتُنا في لبنان (إلى سوء البنية الفوقية الزمني) أنّ الْحسد ينهش غير الواصلين، فيرمون الواصلين برياح الْحقد والإشاعات والتُّهَم، كي يُسْقِطوا عنهم الْهالة، ولو انّهم، هُم، لن يستطيعوا بلوغ نعمة الْهالة.
واليوم، غاب جبران والريْحانِي، وبقي لنا منهما حنينٌ دائِمٌ إلى لبنان (لبنانِهما الْخاص)، وأدبٌ رائعٌ عن ذلك الْحنين، عزاؤُنا أنه يعوِّض عن ترّهات ما كانا ينـتقدانه في ساعات الغضب.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*