266: أيـُـمكن أن تكون لحظةُ الخلق جَماعية؟

السبت 17 آب 2002
– 266 –
أتاح لِي سِمبوزيوم “أيام رأْس الْمتن الدولية الثانية للرسم والنحت” أن أعيش يومياً مع الفنانين في ورشة عملهم، وأُقاسِمهم أحياناً وجبات الفطور أو الغداء، وأُمضي معهم أمسيات العشاء والسهر. وهذه التجربة (الغريبة عنّي): تَجربة العمل معاً (رسامون يرسُمون في غرفة واحدة، ونَحاتون ينحتون معاً تَحت شَمس واحدة وفي باحة واحدة مُحتملين غبارَ الْحجارة نفسَهُ وصوتَ الصواريخ والأزاميل نفسَهُ) أتاحت لِي أن أختَبِر تَجربة العمل الفني في مناخ مشترَك، وهو ما يسمى “أكاديْمياً” بـ”الانغماس الكلي”.
وكنتُ عاينتُ (عامَي 1990 و1991) مثل هذه التجربة تقريباً، في جامعة ميدلبُري (ولاية فيرمونت الشمالية الْمحاذية كندا) حيْن كان مفروضاً علينا كأساتذة أن نبقى مع الطلاب أربعاً وعشرين ساعة مدة عشرة أسابيع كاملة حتى نرغمهم على التكلم بالعربية، وأن نقيم معهم في بناء واحد ونتناول الطعام معهم الى طاولة واحدة حتى يتحقق ما يسمى “الانغماس الكلي” في الْجو واللغة والْمناخ العام.
غير أن هذا أمر، والعمل الإبداعي الذي فيه خلق، أمر آخر. وكنت معجباً حقاً بالرسامين والنحاتين في رأْس الْمتْن، كيف كان واحدهم يعمل بالفرشاة أو الإزميل، حدَّه فنان آخر يعمل كذلك بفرشاته أو إزميله، لا يتضايق الواحد من الآخر، بل ينصرف منكبّاً على عمله كما لو انه وحده في مُحترفه، حتى إذا ابتعد خطوات عن منحوتته أو لوحته كي يتبصَّرها أفضل، تَبَصَّرَ كذلك لوحةَ زَميله أو منحوتَتَه. وذلك، عدا جلسات مشتركة يعقدونَها مساءً أو ليلاً (كانت لي سعادة أن أُشاركهم في معظمها) يتم خلالَها التداول والتباحث في لوحة هذا أو منحوتة ذاك. ويكون للنقاشات في ما بينهم مناخ إيْجابِي تثقيفي بنّاء.
وكنتُ قبلذاك على قناعة أن لَحظة الْخَلْق الفني حَميمة وخاصة وشخصية ولا يُمكن أن يعيشها صاحبها إلا في حالة خصوصية وعلى انفراد تام، تَماماً كلحظة الْجُماع التي (إلاّ في حالة الشذوذ الْجنسي) لا يُمكن أن تعاش جَماعياً (بفتح الْجيم)، بل حَميمة ومنفردة. غير أنني بعد عيشي “الانغماس الكلي” في تَجربة رأْس الْمتْن، ومشاهدتِي الفنانين يتقاسَمون الْمساحة (الغرفة أو الباحة الْخارجية) وغرف النوم (ذات الأسرَّة الضيقة) وطاولة الطعام (الضئيلة على غنى الوجبة) والاستحمام ( في حَمّام مشترك للجميع)، تغيَّرَتْ قناعتي الى إمكان الْجَمع بين جُماع فنّي (بضم الْجيم) جَماعي (بفتح الْجيم) للحظة الْخلق الإبداعي، ومناخ فنّي يتكوَّن جَماعياً (بفتح الْجيم) ويبدع فردياً. فالإبداع مَجموعةٌ وفرد معاً، مناخه عام وعطاؤُه خاص.
وكنتُ، في ميدلبُري كذلك، حضرتُ بعضاً من “ورشة عمل” أدبية في “كوخ روبرت فروست” (الذي كان ينْزوي إليه صيفاً ليكتب) لكنني لَم أَستوعب ذلك أدبياً، حتى عشت مؤخراً تَجربة رأْس الْمتن الفنية، فَوَعَتْ في بالي فكرة سأطرحها عليكم في “أزرار” 267.
(يتبع في الأسبوع الْمقبل)

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*