الجمعة 28 كانون الأول 2001
– 232-
كم مفرحة كانت ردود فعل الزملاء في الوسط الثقافي (مؤلّفين موسيقيين، رسامين، نَحاتين، شعراء، أدباء، مسرحيين، سينمائيين، مفكرين، مؤرخين، مؤلفين في مختلف الحقول،…) حين علموا بتأسيس “مركز التراث اللبناني” (في الجامعة اللبنانية الأميركية- مكتبة جبران- بيبلوس) وما يضمره من جمع وحفظ وتوثيق لكامل تراثنا اللبناني هنا في لبنان وهناك في كل بلاد من العالم (أنتج فيها لبنانيون أو صدر فيها نتاج عن لبنان أو عن اللبنانيين) بكل ما في هذا التراث من مكتوب ومخطوط ووثائق وصور ورسائل ومطبوعات (كتب، مجلات، صحف، دوريات…) في جميع لغات العالم.
ويكادون جميعهم يجمعون على ردة فعل واحدة في جواب واحد: “أخيراً. بات لتراثنا الفكري اللبناني بيت”. ذلك أن مثقفينا (في معظمهم، كي لا نعمم) يموتون تاركين إرثهم لأولادهم أو أقربائهم أو أنسبائهم أو عارفيهم، ممن ليسوا دائماً في الوسط الثقافي، فيبقون هذا الإرث مسجوناً في زواياهم، أو يهملون (عن جهل أو غير قصد) حتى يؤول إلى النسيان فالبعثرة فالتلف (الياس أبو شبكة نموذجاً)… ونادراً ما يتاح لإرث لبنانيين كبار من يتلقفه بعدهم فيحفظه كما تجب المحافظة (أمين ألبرت الريحاني، نموذجاً، في الحفاظ على إرث عمه الأمين نشراً أو عرضاً توثيقياً في متحف الريحاني، أو المحامي شوقي قازان في حضانة كتابات عمّه أنطون ونشرها والسهر على توزيعها وإبقاء ذكرى أنطون حية دائماً في الذاكرة الأدبية، أو هاني فروخ في الحفاظ على إرث أبيه مصطفى لوحات ورسوماً وكتباً وكتابات مخطوطة).
ولكن ماذا عمن ليس لهم من يحفظ تراثهم ويحافظ عليه بعد رحيلهم عن هذه الدنيا؟
في 25 كانون الأول 1953 كتبت ماري هاسكل إلى مريانا جبران رسالة تخبرها فيها أنها وهبت مكتبة جامعة نورث كارولاينا- تشابل هيل كل ما تملك من أوراق عن حياتها مع جبران: 325 رسالة منه إليها، 291 رسالة منها إليه، يومياتها في 15 دفتراً حجماً كبيراً و22 دفتراً حجماً صغيراً و467 دفتراً نقلت عليها أفكاره وآراءه في الأدب والفن والحياة. ولو لم تفعل ذلك قبل دخولها مأوى العجزة (عام 1959 حيث أمضيت خمسة أعوام حتى وفاتها عام 1964)، ولو لم تنشرها فرجينيا حلو في كتاب “نبي الحبيب” (صدر تعريبها عن “الأهلية للنشر والتوزيع” في ثلاثة أجزاء)، وكان توفيق صايغ قد أضاء على بعضها في “أضواء جديدة على جبران”، لكان جزء كبير من وجه جبران ضاع مع أوراق ماري التي كشفت فيها عن جبران ما لم تكن مؤلفاته لتكشفه عن حياته الخاصة.
“مركز التراث اللبناني”، في حرم الجامعة اللبنانية الأميركية، دوره أن يستلحق كل “ماري هاسكل” قبل ضياع الإرث، ليدخل هذا التراث بيته في هذا “المركز” فيكون محفوظاً ومرتباً ومنسقاً ومحافظاً عيله وجاهزاً لكل من في لبنان والعالم يرغب في الاطلاع على إرث لبنان.
أخيراً، بات لتراثنا يحميه من التشرد، ويحفظه ذاكرة وطنية حضارية للبنان المستقبل.