الجمعة 13 تموز 2001
– 209 – رأس المتن
بعد طول انتظار (نحو أربع سنوات) تسنى لي، في نهاية الأسبوع الماضي، أن أهنأ إلى “خلوتي” في رأس المتن (بلدة أنيس فريحة وعجاج نويهض وسعيد فريحة)، في صومعة صغيرة شئتها انسحاباً من ضجيج المدينة إلى هناءة السكون، يغمرنتي ما أحاطني (ويحيطني) به أهالي رأس المتن من دماثة وترحاب وضيافة “معروفية”.
واختليت في صومعتي يومين كاملين، أنجزت خلالهما قصيدتي في أمين تقي الدين (نحتفل بذكراه اليوم الجمعة في بعقلين).
لست أنوي في هذا المقال (الذي اعتاده القراء صحافياً) أن أكتب قطعة أدبية رومنطيقية عن المشهد المنسبط أمامي من شرفتي في “خلوة” رأس المتن (فهذا النوع من الأدب أشبعه كبارنا أدباء الطبيعة اللبنانيون) لكن الشاهد أنني ذقت فعلاً وحقاً هناءة السكون بعد سنوات طويلة من الضجيج، أنا ابن المدينة الذي نشأ على وساعة البحر (جونية). وكم كنت دائم التوق إلى هدوء ضيعوي افتقدته منذ رحل جدي وجدتي عن هذا العالم (وكنت أمضي صيفاتي عندهما في الضيعة) حتى تسنى لي اليوم أن أعود إلى هدوء قرانا الحالية بالنور.
هدوء… هدوء في خلوتي… حولي جيراني العصافير ارتجلت مسرحاً لها من بساط الصنوبرات الأخضر تحت شرفتي، فكأن خلوتي مشيدة على رأس صنوبرة، تطل من الغرب على مطار بيروت ومن الشرق على قمة صنين.
في ذينك اليومين، اكتشفت كم كان ينقصني الهدوء لا الوحدة. هذه ننسجها نحن حولنا كيفما شئنا ومتى وأنى، ونأتي بها إلينا، بينما الهدوء نذهب نحن إليه. وأنا “ذهبت” إليه، إلى حضن الطبيعة (حضن فعلي كما كنت دوماً أحلم به في حنان الطبيعة) فوق واد مهيب مسمى “وادي لامرتين” لأن لامرتين (يقال) من بيته (في حمانا، بيت مزهر أحد المقدمين) ومن خلوتي(على شير صخري في أعلى فالوغا، قريباً جداً من يعمل “صحة” اليوم) كان يراه ويتأمله ويكتب عن هدوئه وهيبته الطبيعية الفريدة. وبعض هذا المشهد (الإطلاله من فوق على الوادي المتعرج) عاينه جبران من بشري فوق وادي قاديشا (في صباه قبل سفره إلى بوسطن عام 1895) وبقي في إغماضة عينيه طوال سنواته الأميركية. وأطن لامرتين، هو أيضاً، عاين هذا المشهد وأخذه معه إلى رحلاته في كل لبنان وإلى فرنساه بعدها.
هذا الوادي الممتد أمامي من شرفة خلوتي، أعطاني في يومين ما لم تعطنيه سنوات من التوق إلى الهدوء والاسترخاء في السكون. يومان من جيرة الصنوبر والعصافير والصمت والسكون والسكوت، كانا كافيين لأعي كم كنت في حاجة إلى هذه الخلوة لأكتب، أو لأسكت، أو لأتأمل. وكم كل واحد منا في حاجة إلى خلوة ما، إلى مكان ما، إلى صنوبرة ما، للإخلاد إلى منسكة روحية وصومعة نفسية وخلوة ذهنية وعزلة عن الآخرين (وخاصة عن هذا الشيطان “الخلوي” في جيبنا) والانصراف إلى التأمل والاستحباس والسكون الداخلي والبيئي.
ذات يوم، في المحبسة عند تلة عنايا حيث كتبت قصيدتي “إلى شربل”، (تغنيها اليوم ماجدة الرومي) تمنيت لب خلوة أنصرف فيها إلى الكتابة. اليوم تحققت لي هذه الخلوة في رأس المتن، وأواعدني على نتاج كثير كنت أنتظر الخلوة لأكتبه.
فهل يمهلني هذا العمر الغادر؟