الخميس 3 أيار 2001
الخرطوم -200-
من غرفتي في هيلتون الخرطوم، كنت كلّ صباح أقف إلى النافذة أتأمل النيل العظيم ينساب أمامي بكل هيبة العصور والوجوه وآلاف الذين عاشوا ويعيشون من خيراته الدهرية. ولم يكن تسنى لي، من قبل، الوقوف على النيل، بل كان في خاطري ما قرأته عنه من أدب وشعر وروايات وتاريخ، ورسخ في بالي عنواناً اعتزازياً (كما في كتابات نجيب محفوظ والطيب صالح) لكل من مصر والسودان.
من غرفتي، كنت أتأمل المراكب تمخر النيل بالسودانيين، صيادي سمك نهري أو مواطنين يعبرون من ضفته إلى الأخرى، سعياً إلى الرزق أو عودة إلى بيوتهم. وكانت تمتد أمامي جزيرة “توتي” السودانية، أهلها يقصدون المرسى صباحاً، فتنقلهم العبَّارات (أو المُعبِّرات) إلى البر وتعيدهم إلى الجزيرة مساء. ويظل النيل محور حياتهم اليومية، صبحاً ومساءً، مثلما هو محور حياة الخرطوم، يمر فيها بشكل رأس فيل وخرطومه “من هنا رمز رأس الفل لولاية الخرطوم العاصمة) فيفصلها ثلاثة أحياء كبرى: الخرطوم بحري، وأم درمان. وعلى الجسور الستة التي تصل أجزاء العاصمة بعضها ببعض، يحتشد المواطنون أيضاً وأيضاً، ذهاباً وإياباً، ويظل النيل محور حياتهم وتحركاتهم.
إنه النهر العظيم عنوان حياة يومية لشعب كامل منذ أول التاريخ. فالمدينة مبنية عند ضفتيه، والشعب يقطن على ضفتيه، والمراكب تنتقل بين ضفتيه، والحياة بأكملها تتمحور حول ضفتيه لوجستياً وعقارياً وعيشاً ومصالح.
في الرحلة النهرية (يصر مرافقتي أن يسميها “النيلية” لا النهرية) أوقف المركب بي عند نقطة من النهر، ونهرني بكل اعتزاز: “هذا هو الْمَقْرَنُ يا أستاذ”. وطلعت خارج المركب حيث اشار، فإذا بفاصل مائي- ويا سبحان الله- كأنه خط مرسوم بالماء (هل يمكن رسم خط في الماء؟) يفصل النهر لونين واضحين، وأكمل مرافقتي: “هنا في المقرن (من القرآن أو الاقتران) يلتقي النيل الأزرق بالنيل الأبيض”. وكان في صوته رعشة اعتزاز وطنية انتمائية عميقة، جعلتني أتأمل في وجهه قبل أن أدير نظري إلى ذاك الخط الأعجوبي (حقاً) يفصل بين لونين من النيل، بين رافدين يأتيان من البعيد البعيد، بين ما يسميه السودانيون “النيلين” معتزين بأن هذين موجودان فقط في السودان، دون جميع البلدان التي ينبع منها النهر أو يصب فيها.
هو اعتزاز المواطن بعطايا الطبيعة في بلاده. والأكثر: هو حسن استخدام الدولة كنوز تلك العطايا الطبيعية، وهذا ما تفعله حكومة السودان على أكثر من صعيد وفي أكثر من مجال.
في طريق العودة ذات ليلة على كورنيش النيل بين أشجار الماهاغوني (ذات خشب الأكاجو أو “الأكاجا”، والمعروف شعبياً بخشب الـ”موغونو”) كانت تتلألأ في النيل أنوار الضفتين من خرطوم بحري وأم درمان، فسمعت في لألائها أصوات العصور الغابرة، تلك التي عاشت على النيل، وعاشت من النيل، وعاشت في النيل، ولا تزال حتّآ اليوم ترى في أرض السودان “تراب خير وبركة وغلال وعطاء” (كما قال لي الدليل في متحف الخرطوم القومي)، وهو اعتزاز نبيل لمسته لدى من صادفته في الخرطوم فرأيت السودان في قلبه عريس أفريقيا الوسيم الدائم.