الخميس 5 نيسان 2001
– 196-
أول ما دخلت حديقته عام 1992 في واشنطن (جادة ماساشوستس، مقابل السفارة البريطانية المحاذية منزل نائب الرئيس الأميركي، عند منتصف المسافة بين مسجد واشنطن وكاتدرائية واشنطن)، لفتني فيها الجو العام المحيط، المضيف طابعاً خاصاً على تمثال راس جبران صاهلاً بنظرته من رحم الحياة إلى فجر الحياة التالية. والرأس جامح على قلق، تنساب من تحته مياه جارية في سقسقة تذكِّر بسواقي بشرّي، حوله ثلاث يمامات وشلح تفاح وإكليل من دالية عنب، خلفه نافورة مياه وسط بركة مثمنة الأضلاع، ذات أرض من حصى، حولها ممر مستدير يلف النافورة وساحتها المغمورة بالزهر الجميل والعشب الأخضر وشجر الحور، والمحاطة بمقاعد حجرية ستة، على متكأ كل واحد منها لجبران من كتبه. وتظلل المكان العام شجرات أرز ثلاث، طول واحدتها تسعة أمتار.
وأول ما دخلت حديقته مساء أمس في بيروت (مقابل مبنى الإسكوا) لفتني فيها الجو الهندسي العام، النظيف الأنيق الجميل جداً، المحاط بأبنية وسط بيروت وطرقاته الحيوية، كما لفتني رأسه بعيداً، فوق، كعصفور ضئيل يحط على عمود. وكلما كنت أقترب من التمثال وقاعدته، يزداد الفراغ حوله، كما ليتركه وحيداً في شساعة، صغيراً في وساعة، متروكاً في خواء من العراء والهواء والمسافة الشاسعة الواسعة، يسهم كلياً في ضياع الرأس المعنق وحده ضائعاً في هذا الفضاء الهائل حوله، يسرق النظر فيه كل مارٍّ وكل حركة وكل زحام.
وبوصولي إلى التمثال، صدمني أن من رأيت في ذاك التمثال النصفي لم يكن جبران، وتأكد لي كاريكاتور بيار صادق قبل يومين (“النهار” 3 نيسان الجاري) حين جعل التمثال ينطق فيقول “مش أنا”، كما تأكد خوفي حين قرأت عن المؤتمر الصحافي الذي عقدته لجنة جبران الوطنية ونشرت “النهار” صورة للتمثال ونحاته (وافين حاديشيان) فقلقت أن تكون هذه هي نسخته النهائية، ثم تمنيت أن تكون هذه مسودة له ما زال يلزمها صقل وتركيز ملامح. وبقيت مشككاً حين نشرت “النهار” (31 آذار 2001) صورة التمثال على صدر صفحتها الأولى غداة التدشين، فقلت إن الصورة لا توضح لي المعالم، ويجب أن أزور التمثال لأراه بعيمي المجردة.
ليس من يجادل في أن زافين أستاذ كبير وتقني خبير. غير أن التجريد أمر، ونحت الوجوه (وهو فن خاص صعب قائم بذاته) أمر آخر. والتمثال (المأخوذ ترجيحاً عن صورة لجبران في محترفه لابساً مريول الرسم الأبيض) جاء بعيد الشبه عن ملامح جبران ونظراته وعينيه وشاربيه وحتى تصفيفة شعره. ربما كان علة اللجنة أن تزود النحات بصورة لجبران في وضعيات وأشكال لرأسه ووجهه ونظراته، تعطي النحات فكرة عن نفسية جبران قبل شكل وجهه.
وعندنا نماذج موفقة جداً من الرؤوس المنحوتة الشديدة الشبه (ميخائيل نعيمة لعساف عساف في بسكنتا، الياس أبو شبكة لبيار كرم في زوق مكايل، توفيق يوسف عواد وفي زيادة لبيار كرم في بيروت، جبران لرودي رحمة على مدخل المتحف في بشري) وكنا نتمنى أن يكون هكذا تمثال جبران وسط حديقته الجميلة جداً، ونحن على أيام من الذكرى السبعين لغيابه في 10 نيسان الجاري، نتهيأ لنقول: “عيد، بأية حال…!”.
أما هذا التمثال اليوم في حديقته الجميلة، فستظل هويته الدائمة ما جاء في… كاريكاتور بيار صادق.