الخميس 8 شباط 2001
– 188 –
لا تزال تصفعنا (وتدمينا وتؤذينا وتبكينا) أعداد شبابنا الذين يهاجرون يومياً (أو يتشردون) إلى أربعة أقطار العالم، فيما المعالجات غائبة عن هذه الكارثة الإنسانية التي تفرغ لبنان من عصبه الأهم والأنفع: عنصر الشباب.
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كانت الهجرة اللبنانية الأولى مدفوعة بالتضييق العثماني على الحرية، ثم كانت الهجرة الثانية مع الحرب العالمية الأولى مدفوعة بالتنكيل العثماني، وبعدها الهجرة الثالثة مع كارثة 1975، ولكن… هذه الهجرة الحالية (ولعلها الأخطر) تجري فيما لبنان عاد من الحرب واستتب فيه الأمن والسلام.
ليس من يجب أن يهجر (طوعاً) بيته الوالدي أو ضيعته أو أهله أو أصدقاءه أو مطارح طفولته وصباه وشبابه. لكن هذه جميعها تفرغ من مدلولها العاطفي والنوستالجي حين لا تكون مصحوبة بسقف الأمان الذي يحميها ويحمي صاحبها راهناً ومستقبلاً. وإذا كان المكان وشاغلو المكان مما يربّى عليه المواطن، فأمان المكان وشاغلي المكان مما تؤمنه الدولة التي أولى مهماتها أن تكون سقف أمان يحمي المواطنين. فهل يشعر بالأمان شبابنا الذين يهاجرون؟
كفى (كي نقنعهم ونغريهم) تصويرنا لبنان لهم بلد المناخ والطبيعة ولقاء البحر والجبل وصحن التبولة والكبة النية وكأس العرق والحرارة الإنسانية. هذه جميعها يعرفونها ويحبونها، لكنها لا تشكل لهم ضمان مستقبل. المطلوب، مطلوبهم، أن تتوافر لهم فرص العمل حين يتخرجون، وأن يتأمن لهم مستوى معيشي لا يشعرهم بالذل في وطنهم، وأن يكون في بلدهم نظام يحميهم من التجاوزات، وأمان سياسي يتابعونه فيشعرون أن السياسيين يبنون الدولة لا يتناهشونها، واستقرار مستقبلي فلا يشعرون أن أزلام السياسيين ومحاسيبهم يسيطرون على معظم الوظائف في الدوائر والمؤسسات والشركات والمصالح، أكثرهم يقبضون رواتبهم ولا يعملون، فيما شبابنا يريدون أن يعملوا لكنهم لا يجدون أماكن لهم لأن الأماكن مسروقة ويحتلها الأزلام والمحاسيب.
شبابنا يريدون أن يشعروا بأن النظام سقف واحد فوق الجميع، ومعيار واحد على الجميع، فلا ابن ست ولا ابن جارية. ويريدون أن يحسوا بأن الدولة حازمة حاسمة صارمة على الجميع في تطبيق قوانين السير ودفع مستحقات الكهرباء والهاتف وضرائب الدخل والبلدية والرسوم، فلا تبقى فوضى الجباية عالة على خزينة الدولة.
هذا بعض ما يطلبه شبابنا كي لا يهاجروا، وهو مفقود، وهو مطلوب من الوطن المناخ والطبيعة وأرض الأجداد والجذور والتراث والحضارة، بل مطلوب من الدولة المفترض فيها هي أن تحافظ على كل هذه كي يتجذر في الوطن أبناؤنا الذين يهاجرون لا من الوطن الذي يحبون، بل من الدولة التي (عهدا بعد عهد، وولاية بعد ولاية، وحكومة بعد حكومة) لا تؤسس نظاماً متيناً ثابتاً دائماً مؤسساتياً يجعل أمان ضماناً لمحبته في قلوب أبنائه.
نريدهم ألا يهاجروا؟ فلنؤسس لهم نظاماً قاسياً صارماً عادلاً هو من مهمة الدولة، لا وطناً هو عطية الله ويحملونه في قلوبهم أنى توجهوا (أو تشردوا) في العالم، لكنهم يمزجون شوقهم وحنينهم إليه باللعنة على أولياء الدولة الذين، منذ استقلال لبنان الوطن عن فرنسا الدولة، لم يسعوا صارمين إلى تأسيس دولة.