165: لماذا اخترناه… لهذا نكرّمه

الجمعة 8 أيلول 2000
– 165-
احتفلنا (في “الأوديسيه” واشتراكاً هذه المرة مع نادي عاليه الراقي النشاطات) بإزاحة الستارة عن بلاطة تذكارية على مدخل البيت الصيفي لكبيرنا مصطفى فروخ في عاليه. وهو تقليد جديد تبدأ به “الأوديسيه”، وسوف يمتد على مساحة كل لبنان، لتكريم أماكن المبدعين اللبنانيين (أو العالميين الذين تركوا أثراً في لبنان)، قياساً بما نراه في عواصم ومدن كثيرة من العالم المتمدّن. هذا التقليد هو: ترسيخ المكان في ذاكرة الزمان.
فبعدما امتلأت بلادنا أسماء سياسيين في الشوارع والجادات والمحطّات والمسدتيرات والمستطيلات والباحات والتماثيل والأنصاب، بات من الضروري المبادرة إلى من هم أبقى وأرقى وأنقى: المبدعون.
نكون في الغرب، في مقهى أو مطعم، فإذا لافتة فوقنا تشير إلى أن هذا الشاعر أو ذاك الكاتب أو ذلك الفنان كان يتردد إلبى هذا المكان. أو نكون مارين في شارع أو حي، فإذا لافتة على بيت تشير إلى أن فناناً أو شاعراً أو رجل فكر سكن هذا البيت من هذه السنة إلى هذه السنة. وفي فايمار (ألمانيا) لافتة في فندق صغير تشير إلى أن غوته “كاد ينزل في هذا الفندق” لاستذكار أنه سأل في الفندق عن غرفة ولم يجد، فغادر.
لكن ذكره لم يغادر.
هكذا الدول العريقة تستذكر كبارها أو من زارها من الكبار، ترسيخاً للمكان في ذاكرة الزمان. وأخبرتني الصديقة الأديبة الكويتية ليلى العثمان (العائدة مؤخراً من كردستان) أنها وجدت هناك شوارع وأنصاباً وساحات على أسماء شعراء وأدباء، ولم تجد بينها أماكن على أسماء سياسيين. ويخبرني الصديق رفيق شرف أن أكبر جادة في مدريد هي على اسم الكاتب الإسباني الكبير خوسيه أنطونيو، لا على اسم رئيس أو وزير أو سياسي.
هذا ما ستبدأ باشتقاقه “الأوديسيه” في نشاطاتها وتقاليدها الثقافية منذ اليوم، ناذرة بعض نشاطها لأمكنة من غابوا، حفظاً لمكانهم في زمان الذاكرة، ببلاطة تذكارية تشير إلى مكان لهم على حياتهم، هم الذين في لبنان، مع السف، لا ينالون، أن نالوا، إلاّ بلاطة شاهدة على ضريح.
بداية هذا التقليد الجديد شئناه مع الكبير مصطفى فروخ الذي انهدم بيته على البسطة التحتا (شارع عبدالقادر الخرسا) بسبب “توسيع الطريق لأسباب عمرانية”، فلم يبقَ من أمكنته سوى بيته الصيفي في عاليه.
لهذا اخترناه كي نكرّمه، فاتحة ما تنوي “الأوديسيه” من حفظ لأمكنة مبدعينا، بدءاً بهذا الكبير الذي (كما قال في “نهار” أمس الزميل نزيه خاطر): “كان دوره على حدة… في الانتماء الفعلي إلى البيئة حوله بأيما وجع وحنين”. هكذا نؤسس لـ”سياحة ثقافية” في لبنان، كي يحج الزوار والسياح لا إلى أماكننا الأثرية والسياحية والطبيعية والتاريخية وحسب، بل كذلك إلى بيوت الأدباء والشعراء والفنانين، فيصبح بيتهم أو محترفهم أو المكان الذي كانوا يختلفون إليه، محجة فعلية، وتصبح للمكان رهبة في صمت الزيارة ولا تعادلها سوى رهبة الوقوف أمام ذاكرة الزمان.
ويا طوبى لنا حين يتحول لبنان من عجقة أسماء سياسييه (كما في كل هذا العالم الثالث التعيس)، إلى شواهد حية لأسماء شعرائنا وأدبائنا وفنانينا الذين هم جعلوا للبنان مكاناً استثنائياً في ذاكرة الزمان.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*