الخميس 20 نيسان 2000
– 144 –
لم يكن أفضل لرجل الأعمال اللبناني ميشال خليفة، كي يتجاوز الفجيعة التي هصرت قلبه بموت ولده آلان، وهو لم يكمل ربيعه الثامن عشر بعد (ولد في 13 حزيران 1981)، من أن يقرّر وهب أعضاء وليده، فيكون بذلك حقق اثنتين: فضيلة أن يهب الحياة لمن لولا تلك الأعضاء قد يموتون، ونعمة أن يفكّر بأن ولده آلان، وهو تحت التراب، ما زال ينبض في سبعة آخرين، يحملون قلبه وقرنيتيه وكبده وكلّيَتيه وطحاله.
وكانت فكرة إنسانية متفوّقة فعلاً أن يمسك ميشال خليفة بكل شجاعته، متجاوزاً دماره الأبوي أمام جسد ابنه عند إعلان وفاته السريرية، ويتشاور مع لجنة أطباء مختصة في “أوتيل ديو”، ثم يأخذ قلمه بكل كبر ونبل، ويوقّع على عقد يسمح للمستشفى باستخدام أعضاء ابنه السبعة لمن يحتاجها (وأول محتاج لإحدى الكليتين كان فتى في الحادية عشرة أنقذه زرعها من العذاب والموت).
ويروي لي أصدقاء آلان، خلال التعازي به في راشانا، أنه هو نفسه قبل سنتين (حين بدأت تنتشر ظاهرة وهب الأعضاء ويتقدم لها أصحاء بكامل وعيهم وإرادتهم كاتبين وصاياهم بوهب أعضائهم بعد الوفاة)، ردد أكثر من مرّة لرفاته وفي أكثر من مناسبة: “إذا متّ فجأة، فأوعزوا إلى أهلي أن يهبوا أعضائي لمن يحتاجها”. وكان ذلك دليل وعي مبكر لذكاء فذ كان يتمتع به آلان، وهو في امتحانات البكالوريا (بقسميها) كما في امتحانات مدرسته (الشانفيل) حقق في الرياضيات علامات مرتفعة لم يسبق أن سجلها تلميذ في مثل سنّه أو صفّه. ويروي رفاقه شهوداً أنه، وهو كان خارجاً من قاعة الصف في كلية الهندسة (الجامعة اليسوعية)، لكن زميلة له، مؤمنة بتفوّقه في دروسه الجامعية، استدعته ليعود إليها فتستشيره بسؤال ذي علاقة الدرس، وكانت اللحظة الحاسمة التي انفجرت فيها القنبلة، وأصابت شظية منها دماغه الاستثنائي، منبع ذكائه الاستثنائي.
ويبلغ الوعي أكثر، بعد، لدى هذه العائلة اللبنانية المفجوعة، أن والدته ماري (صقر) وشقيقه داني وشقيقته باميلا، وافقوا جميعاً على فكرة الوالد بوهب أعضاء الراحل آلان، كما تثبيتاً لإحساس أنه باق حياً في سبعة أشخاص، وأن موته الفاجع القاسي عليهم كان نافذة حنان ورحمة لسبع عائلات أخرى.
هذه البادرة الإنسانية من ميشال خليفة (ولو على حساب حزن عميق يغالبه ولا يغلبه)، فلتتعمم وعياً وأمثولة ونموذجاً ومثالاً في كل لبنان، وليصبح وهب الأعضاء ظاهرة طبيعية عادية يوصي بها الأحياء أهلهم وأقرباءهم وأنسباءهم، وليسجلوها رسمياً لدى الكاتب العدل، بشجاعة وجرأة ووعي ضمير، حتى يكون الموت طريق حياة لمن بعدنا، على هدي الذي نحتفل بعد ظهر غد بجنازه ونحن نردد لأمه المفجوعة: “فليكن موت ابنك حياةً لطالبيها”.
فتحية العزاء والإكبار معاً لميشال وماري خليفة على بادرة في حجم الحزن، حوّلاها في حجم الفرح لسبعة سوف ينبض فيهم آلان الذي، بغيابه القاهر، وهبهم أن يكون موته… “حياةً لطالبيها”.