الخميس 16 أيلول 1999
– 116 –
في 16 كانون الثاني 1883 (وكان في بشري طفل اسمه جبران عمره عشرة أيام) دعا النحات رودان صديقاً له كي يريه تمثاله المنجز حديثاً: “المفكر”. فالتفت إليه الصديق متعجباً من دقة التفاصيل التعبيرية في وجه التمثال وعروق يده، وسأله: “كيف استطعت يا أوغست أن تنحت في الحجر كل هذه التفاصيل؟”، فجاء جواب النحات العبقري ببساطة: “أنا لم أنحت التفاصيل في الصخر، بل أزلت من الصخر الصلد جميع النوافل والزوائد، وهذا ما بقي منه بعد التشذيب”.
وسرت هذه العبارة مثلاً في كون الفن (شعراً، رسماً، نحتاً، موسيقى،…) هو ما يبقى بعد إزالة الثرثرة والتفاصيل، أي أن الفن هو جوهر الجوهر، هو ومض الإيجاز، هو لب الاختصار.
هذا الشعور، لدى العارفين المتنورين، غمر الذين تحلقوا عصر الخميس الماضي (9/9/99) أمام رأس ميخائيل نعيمة في الشخروب، مندهشين من دقة التفاصيل في الوجه وثنيات الخد الذي تستند إليه أصابع يد بدت عروق كفها وظهرت أظافر أصابعها مقلمة، عدا شبه يكاد يكون كاملاً (إذ لا كمال يحاكي كمال الله) في وجه ميخائيل نعيمة وعينيه وشعره وبسمته الصوفية العميقة.
وكان بين الحضور شاب ناحل حيّي، كأنه طيف شخصه لشدة تواضعه، يهنئه الناس فيزدونه حياء وضعة وخجلاً وتلعثم إجابات. إنه عساف عساف، المبدع الذي انكبّ على صخر صلد في شخروب نعيمة، فوق مثواه الأخير، فامتشق إزميله (يعاونه شقيقاه منصور وعارف اللذان يلازمانه موهبة وإبداعاً) نحتاً في الصخر وإزالة شوائب وفجوات ونتوءات وثرثرات وتفاصيل ومساحات، كأنه يبحث في قلب الصخر عن رأس نعيمة المنحوت، حتى إذا انتهى نحت الرأس (بحجم يكبر عشرات المرات حجم الرأس الطبيعي)، بدا كأنه لم يفعل سوى إزالة التراب والحجارة عن هذا الرأس، وكأن الطبيعة هي التي نتحتته مكتملاً بهذا الشكل داخل قلب الصخر في الشخروب، غير بعيد عن الأشكال الرائعة المتكاملة التي نحتتها يد الله في الطبيعة داخل مغارة جعيتا.
هذا الرأس الهائل الحجم يعيد التذكار إلى جبل راشمور (غربي ولاية داكوتا الأميركية) حيث تولى غاتزون بورغوم على علو 1889 متراً نحت أربعة رؤوس من 18 متراً واحدها، للرؤساء الأميركيين الأربعة واشنطن، جفرسون، لينكلون، روزفلت. ورأس ميخائيل نعيمة بإزميل عساف عساف، وشقيقيه منصور وعارف (له سابقاً تمثالا نبيه أبو الشحن وشوشو)، بات بعد اليوم واحة في الشخروب تستقطب السياح إلى اثنين: واحة اعتزال نعيمة الكبير، وأثر فني رائع جعل منه عساف عساف معجزة جديدة لإزميل لبناني مبدع بات من هوايته العفوية اجتراح المعجزات.