الخميس 26 آب 1999
– 113 –
الجدل الذي أثير مساء الأحد الماضي (سهرة “المؤسسة الوطنية لإرسال” في عيدها الرابع عشر) حول الأغنية اللبنانية، أشار في وضوح إلى تخبط الدخلاء أمام الأصلاء، وذوي الاعتداد أمام الرواد، ونفر المدعين أمام المبدعين.
أساراع إلى نفي صفة “الأزمة” عن الأغنية اللبنانية فهي لا يمكن أن تكون أزمة. إنها ثابتة، والثوابت لا تقع في أزمة. ثابتة، كالشعر، كالموسيقى، كالأخلاق، كالشمس، كالوردة. الأزمة لا تكون في الثوابت بل في المتغيرات، وعند المتعاملين مع الثوابت، لنقص فيهم أو قصور.
إذا كنت عاجزاً عن شم الوردة أكون أنا، لا الوردة في أزمة. وإذا كنت لا أستطيع التحديق إلى الشمس ىأكون أنا، لا الشمس، في أزمة. وإذا كنت سيئاً أكون أنا، لا الأخلاق، في أزمة.
من هنا أن الأغنية اللبنانية، بفضل روادها العباقرة المؤسسين والمواصلين، هي بخير، بل هي في أوج عطائها وازدهارها. والأغنية اللبنانية تاريخ لا مرحلة، وظاهرة مستمرة لا موجة راهنة. وما دام التاريخ يصنعه كبار استثنائيون، والظاهرة يشكلها كبار استثنائيون، فيغدو التاريخ مرجعاً وتمسي الظاهرة محطة، لا بد إذاً عند الكلام على الأغنية اللبنانية، تاريخاً وظاهرة، من الوقوف عند ما أنجزه مؤسسوها الكبار، للقياس عليهم، ودراسة إنجازاتهم، والانطلاق من مستواهم- لا مما دونه- لمواصلة المسيرة في علامة لبنانية غزت العالم العربي منذ مطالع الخمسينات، وأصبحت مثالاً نسج عليه الآخرون لدخول قلوب الناس ووجدانهم وذائقتهم الجمالية، مما جعل بيروت مرنى فنانين ضيوف كثيرين قصدوها متباهين في نبذات سيرتهم الفنية أنهم غنوا في بيروت أو سجلوا فيها.
هذه الظاهرة ركزها (لحنياً) رواد مؤسسون: ممن عاصي ومنصور الرحباني، إلى زكي ناصيف وفيلمون وهبي ووديع الصافي (ملحناً إلى جانب صوته الاستثنائي)، فنقلوها من بلادة ما قبل الخمسينات وبداوتها وتبعيتها للنمط المصري، إلى نمط لبناني أصبح رائد ذوق وجمال.
والحاصل اليوم: ردة جاهلة أمية عكس السير، إذ يتنطح من أعادها إلى تبعيتها لمصر وإلى النمط البدوي والخليجي، في موجة بلهاء يكرسها صيصان المطاعم وقبابيط القهاوي، ويزيد من رواجها بعض جهلة الإذاعات ممن ينخرعون بأنماطها وطنطنات إيقاعاتها فيذيعونها بتكرار مرهق.
مع كل هذا الغلط، ومع كل هذه الفورة، لا نزال نصر على أن الغنية اللبنانية راقية رائعة عز ازدهارها، لأنها- في خط المؤسسين- لؤلؤة عميقة لا تؤثّر فيها الموجات، بينما الفورة الحالية هي الواقعة في أزمة، لأن أصحابها زبد مبهرج زائل لن يبلث أن يبتلعه رمل الشط بعد حين.