الجمعة 11 حزيران 1999
– 102 –
تكون في قاعة محاضرات، أو صالة مسرح، أو أوديتوريوم كونشرتو، ويكون الصمت حارساً حازماً ليظلّ الانتباه تاماً والتركيز كاملاً والإصغاء رهيفاً للمتابعة القصوى. وفجأة يخرج رنينه المزعج من جيب أحدهم أو من “جزدان” إحداهن، فيتململ المحيطون، وينزعج الباقون، ويشمئز الجميع، ويعلّق البعض، ويشتم البعض الآخر. والأنكى من كل هذا أن الصمت يكون انكسر، والانتباه انفرط، والتركيز تشتت، لأن رنين السلالير (جمع سيلولر) قطع انسياب الإصغاء.
أحياناً يكون صاحب الجهاز سها عن إطفائه على المدخل، وهذا- إلى حد- مغفور. وأحياناً يكون الجهاز مفتوحاً فيطفئه صاحبه عند أول رنة، كي لا يشعر بالصغر والحقارة والوقوع تحت أسواط العيون المشمئزة حوله. ولكن الأنكى من كل هذا، أن يرن الجهاز المزعج فيبادر صاحبه إلى سحبه من جيبه (أو صاحبته من جزدانها) ويمتد حديث (خافت أو شبه خافت) كأن الأمر طبيعي يحدث على شرفة بيت أو في صبحية نسوان.
هذه العادة الجديدة- العادة السمجة الثقيلة الدم المزعجة المقرفة- تتفشى في مجتمعنا بشكل بشع، وتصدر غالباً عن جهل أو وقاحة أو غطسرة أو تشاوف، ولا رادع لها داخلياً طالما ثمة من يسمح لنفسه أن يدخل لحصور محاضرة أو ندوة أو أمسية موسيقية ويبقي (وتبقي) الجهاز مفتوحاً.
يشفع قليلاً في صد هذه الآفة المقرفة أن الناس أصبحوا يشمئزون- وبصوت عال أحياناً- ممن يبادرون إلى مد حديث خليوي وسط صمت الحاضرين وتركيزتهم هلى المنبر أو المنصة. ولكن ما لا يشفع مطلقاً، وقاحة من يتركون الجهاز مفتوحاً حتى بعدما يعمد المعنيون إلى التنبيه على المنبر أو بالتسجيل الصوتي (في المسارح) لإطفاء الأجهزة الخليوية. ومع ذلك، مع كل ذلك، يبقى من يتمتعون بموهبة الوقاحة وثقل الدم فيتركون أجهزتهم مفتوحة ولو رفستهم عيون المشمئزين حولهم.
ومن التسهيل أن التكنولوجيا تنبهت إلى هذا الأمر، فوضعت أجهزة يمكن إبدال رنينها بحركة رجراجة تنبه صاحبها وحده من دون إزعاج الناس حوله. ولكن ماذا تستطيع التكنولوجيا أمام الوقاحة وقلة الأدب وفقدان كل حس سلوكي سليم وتربية مدنية حضارية؟
ظاهرة تجارية رابحة أن لبنان (وبنسبة مئوية عالية جداً قياساً على عدد سكانه) خرج البلد الأول في العالم باقتناء الخليوي (في كل يد وكل جيب وكل “جزدان”). ولكنها ظاهرة باتت مصدر امتعاض كاريكاتوري، كمن اعتاد ركوب الجمل، وحين اشترى الكاديلاك تربع فيها… حافياً.