الخميس 12 تشرين الثاني 1998
– 72 –
كنا مدعوين، سعيد عقل وأنا، إلى غداء عند صديق مشترك في بعبدا. وحين وصلنا، لم أجد مكاناً أمام البناية أركن فيه سيارتي، وأبى سعيد عقل أن يترجل على المدخل، فبقي معي حتَّى ركنتها على بعض مسافة، في بقعة ترابية شبه موحلة.
ترجّلنا معاً، فخجلت إذ ألقيت نظرة على حذائه، ووجدته لماعاً تمرغ بالتراب، اعتذرت منه، فبادرني بترفعه الزينوني الرواقي المعهود: “ولا يهمّك. هذه أوّل مرّة أنتعله. اشتريته أمس بثلاثين دولاراً. حين يهترئ فليأخذ سعره معه”.
أخذني العجب، رغم مجهولاتي الواسعة في ترف الموضة، وضحالة “ثقافتي” العالية في أسعار الأحذية. لكنني تصوّرت أنه ثمن بخس لحذاء ينتعله سعيد عقل.
وكأنه قرأ العجب على وجهي أو في سكوتي عن التعليق على جوابه، فأردف بنبرته التبشيرية المحببة: “وهل تريدني أن أشتري حذاء بأثمن من ذلك؟ الحذاء حذاء، مهما كان. المهم أن يقي قدمي. هذه وظيفته. فلماذا أدفع ثمنه مبلغاً يمكنني بفارقه أن أشتري كتاباً أو أن أشترك في مجلة أو أن أدفعه على أمر يخدم مني العقل لا القدمين؟”.
طوال تلك الجلسة على شرفة صديقنا المشترك، فيما كان سعيد عقل مسترسلاً في حديثه وتعليمه وتبشيره بلبناني الثاني، كنت- وأنا أعرف سلفاً مضمون كلامه- أسترق النظر مرّة إلى حذائه اللماع (بما سوى ثلاثين دولاراً)، وأخرى إلى ثيابه الأنيقة على بساطة جميلة هادئة (بما سوى مبلغ قد لا يكون نسبياً باهظ الرقم). وبين المرّة والمرّة، أنظر إلى وجهه ورأسه وحركات يديه، وأصغي إلى كلامه، فأفهم كم ليس يشبه العبقري أن يلفت إلى حذائه أو ثيابه، بل يعتمد تواضع مستويات البساطة الأنيقة، لتكون أحذيته وثيابه وظيفية لا عرضحالاتية، فيما يبذل الفارق من مبلغ الأحذية والثياب على شؤون العقل والثقافة والمعرفة.
وما أكثر الذين، في مجتمعنا، يبذلون مبالغ متورّمة على أحذيتهم وثيابهم وسياراتهم وربطات أعناقهم، وليس فوق أعناقهم رؤوس تتحدث بما هو أرفع مستوى من حذائهم الثمين اللماع.